غسان العزي
كانت القمة العالمية السادسة عشرة للنفط، المنعقدة في باريس في ٦١ إبريل/نيسان الجاري، مناسبة لنقاش مستفيض حول حاضر ومستقبل المصدر الأساسي للطاقة في عالمنا المعولم، وللإجابة عن التساؤل ما إذا كان الانهيار الحالي للأسعار هو بداية النهاية لهذه المادة الحيوية، التي طالما توقعها محللون. وخلال انعقاد هذه القمة كانت تصل أخبار المعارك بين داعش والقوات العراقية، المدعومة من القصف الجوي الأمريكي، حول مصفاة بيجي، وهي الأكبر في العراق، كدليل على أن البترول لا يزال يشكل رهاناً استراتيجياً للكثير من الصراعات العسكرية الدائرة في العالم وفي الشرق الاوسط على وجه التحديد.فلا تزال الطاقة الأحفورية تشكل أكثر من ثمانين في المئة من الطاقة المستخدمة على المستوى العالمي، وبالتالي فإنها لا تزال تحافظ على وزنها الاقتصادي والمالي في الدورة الاقتصادية العالمية. فالأموال التي استثمرتها صناعات استخراج الطاقة الأحفورية بلغت، في عام ٣١٠٢، عشرة أضعاف تلك التي استثمرها أي قطاع صناعي آخر.
تراجع الأسعار سببه عدة عناصر متداخلة مع بعضها البعض، مثل تراجع النمو العالمي وبخاصة التبادلات التجارية الدولية وتفوق العرض على الطلب ونمو قطاعات نفطية غير تقليدية والمضاربات في البورصة، ناهيك عن الارهاب والمشكلات السياسية والاضطرابات الجيوبوليتكية. هذا التراجع يشكل خطراً يحدق بالبلدان الفقيرة المعتمدة أساساً على النفط مثل فنزويلا ونيجيريا ويؤثر سلباً في اقتصادات دول مصدرة له مثل أنغولا والجزائر وإيران وروسيا، وحتى بريطانيا ذات الإنتاج المتواضع.
في الثالث من فبراير/شباط الماضي، أعلنت شركة شل عن نيتها التوقف عن العمل في أحد حقولها في بحر الشمال. وتقول صحيفة «الفايننشل تايمز» بأن معظم المنصات ال٠٧٤، والعشرة آلاف كلم من الأنابيب والخمسة آلاف بئر نفطية في بحر الشمال ستصبح خارج الخدمة إذا ما استمرت الأمور على حالها. فانخفاض سعر البرميل عن ستين دولاراً يجعل معظم هذه المنشآت غير مجدية والاستثمار فيها غر مربح.
خلال العقد الممتد ما بين ٢٠٠٢ -١٢٠٢ زادت الأموال المستثمرة سنوياً في قطاعات التنقيب عن النفط واستخراجه من ٠٠٢ إلى ٠٠٧ مليار دولار، ومعظم مصادر الخام الجديدة تتطلب سعراً للبرميل يدور حول المئة دولار على الأقل. ويبقى استخراج المصادر البديلة، مثل النفط الصخري، مكلفاً، ناهيك عن تأثيرها السلبي في البيئة. والحد من هذه التكاليف والتأثيرات يتطلب انفاقاً متزايداً على قطاع البحث والتطوير، المستهلك الكبير للتكنولوجيا والرساميل. والرساميل باتت نادرة على خلفية تراجع النمو العالمي. والتراجع الحالي للأسعار يهدد القطاع الصناعي العالمي للذهب الأسود. هذا ما خلصت اليه القمة العالمية للنفط في باريس.
وإزاء محدودية المصادر الطبيعية لم يتم التوصل بعد إلى حلول تقنية مجدية لاستبدال النفط الذي لا يزال يلعب الدور الأول في إدارة التبادل العالمي بين المنتجين والمستهلكين. وهذا ما يشرح أيضاً الأهمية الجيوبوليتيكية المتنامية لمنطقة الشرق الأوسط، لاسيما ممر البترول الممتد ما بين شرقي تركيا وسوريا، وغربي الهضبة الإيرانية، أي بتعبير آخر حيث النفط الرخيص.
ولا بد من ملاحظة أن موارد العراق النفطية بقيت محفوظة إلى حد كبير طوال ربع قرن من الحصار والحروب، ما يرشح هذا البلد لتبوؤ المركز العالمي الأول في قطاع النفط التقليدي، كونه يستعد لاستخراج النفط بكميات وافرة، على الأرجح، في السنوات المقبلة. وربما لهذا السبب فإن الولايات المتحدة، على الرغم من فشلها وهزيمتها في العراق، عادت لتتدخل فيه عسكرياً بهدف وقف تمدد تنظيم داعش الإرهابي الذي يعتمد في تمويله على النفط بشكل أساسي. وبالمناسبة فإن سفيرة الاتحاد الأوروبي في العراق جانا هيباسكوفا كشفت في احد الاجتماعات الأوروبية في بروكسل، في سبتمبر/أيلول الماضي، أن داعش يبيع النفط أيضاً إلى دول اعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد تسبب الخبر بفضيحة وتحقيقات سرية دافعت خلالها الدول المتهمة عن نفسها بالقول إن هناك سوقا سوداء وشركات وهمية وطرقا وأساليب سرية يمكن من خلالها بيع النفط غير الشرعي لشركات أوروبية، ولكن من دون علم الدول.
أما المملكة العربية السعودية فتبقى إلى اليوم القوة النفطية الأعظم في العالم بصفتها المنتج الأول وصاحب الاحتياطات التقليدية الأهم في العالم (١٦ في المئة). وأعلنت منذ سنوات عن نيتها التخفيض من استغلال الخام الذي يرقد في أراضيها. ففي العام ٠١٠٢ أعلن الملك عبدالله عن تمنيه أن يتوقف التنقيب عن النفط «بهدف المحافظة على هذه الثروة لأبنائنا وأحفادنا». لكن الاستمرار في وتيرة مرتفعة للإنتاج والتصدير يعود حالياً إلى أسباب سياسية وجيوبوليتيكية على خلفية «اللعبة الكبرى» الدائرة في الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.
وكدليل على استمرار الأهمية الاستراتيجية للنفط، كما يقول ماتيو أوزانو الذي أصدر في مارس/آذار الماضي في باريس كتاباً بعنوان «الذهب الأسود»، تاريخ البترول، فان سياسيين كبارا في الغرب تحولوا إلى مستشارين لدول في مجال الطاقة منهم على سبيل المثال هنري كيسنجر (لمصلحة السعودية) وجيرارد شرودر (روسيا) وتوني بلير (الإمارات العربية المتحدة) ودومينيك دوفيلبان (قطر).
يمكن القول إن مستقبلاً زاهراً لا يزال أمام النفط، على عكس ما راهن عليه محللون كثيرون على مساحة نصف القرن المنصرم. وهذا ما خلصت إليه قمة باريس.