حيدر الحسيني
«خفّة الدم» التي حاول وزير مالية ألمانيا «الصارم»، فولفغانغ شويبله، أن يتحلى بها في مقابلة مع برنامج الأطفال «ليغو» على تلفزيون «زد.دي.إف.»، تعكس في الواقع خلافاً لظاهرها موقف برلين الحازم حيال أزمة الديون اليونانية، بمؤازرة واضحة من صندوق النقد الدولي، في محاولة لإخضاع حكومة أثينا اليسارية كي تتجاوز وعودها للناخبين وتقبل بالشروط «الإصلاحية» القاسية مقابل حزمة قروض تعينها على التقاط أنفاسها وتأجيل إعلان إفلاسها.
في تلك المقابلة، أعطت مقدمة برامج يافعة الوزير الألماني قطع شوكولاتة على شكل عملة اليورو، فما كان منه إلا أن ردّ عليها قائلاً: «سآخذ بعضها لزميلي اليوناني (يانيس فاروفاكيس)، فهو بحاجة إلى أعصاب قوية أيضاً»، وهو يعلم الضائقة التي يكابدها نظيره لتخطي أزمة الديون، بعدما دخل معه مراراً في سجالات بشأن الإصلاحات الاقتصادية منذ تسلم حزب سيريزا اليساري السلطة مطلع العام الجاري، متعهداً إنهاء التقشف وإعادة التفاوض على شروط الإنقاذ التي وافقت عليها الحكومات اليونانية السابقة.
موقف الحكومة اليونانية بات حرجاً للغاية، فهي تواجه خطر «التخلف عن السداد» في أحسن الحالات وخطر الإفلاس في أسوأ الاحتمالات خلال أسابيع ما لم تتوصل إلى اتفاق ما زال يبدو بعيد المنال بعد 4 أشهر من المفاوضات المضنية.
وبعدما سددت مئات ملايين اليوروات من صندوق الطوارئ الذي بات خاوياً، يتعيّن على اليونان أن تسدّد مدفوعات إلى صندوق النقد هذا الشهر بقيمة 1,5 مليار يورو اعتباراً من يوم الجمعة المقبل (5 حزيران)، فيما يعتبر صندوق النقد والاتحاد الأوروبي أن أثينا عليها تنفيذ ما يعتبره إصلاحات ضرورية هيكلية قبل تقديم الشريحة الأخيرة البالغة قيمتها 7,2 مليارات يورو على الأقل لإنقاذ البلاد من المخاطر.
محاولات عقيمة
لم يمر أسبوع منذ تسلّم الحكومة اليونانية مقاليد الحكم إلا وشهد محاولات لا تزال عقيمة من أجل التوصل إلى اتفاق، وأحدثها الجمعة الماضي اختتام وزراء مالية وحكام المصارف المركزية لدول مجموعة السبع في دريسدن اجتماعات دامت يومين، ولم تفض إلى اتفاق بشأن الأزمة اليونانية، فيما من المرتقب أن تُعقد هذا الأسبوع قمة المجموعة على مستوى الرؤساء في أجواء لا تبدو أكثر تفاؤلاً.
وقد انتهت السبت الماضي (30 أيار) مهلة التوصل الى الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد، بعد انتهاء فترة تمديد خطة مساعدة اليونان، وهي المهلة التي نص عليها الاتفاق الموقع في 20 شباط.
يأتي ذلك في وقت يتقاذف فيها اليونانيون ودائنوهم التصريحات والتصريحات المضادة، على نسق ما حصل الأسبوع الآفل، من نفي لمعلومات يونانية تحدثت عن اتفاق وشيك بدأت صياغته قبل اجتماعات «السبع» الأسبوع الماضي، مع تصعيد لافت من صندوق النقد، الذي قالت مديرته كريستين لاغارد إن خروج اليونان من منطقة اليورو «احتمال قائم»، ليحاول الصندوق التخفيف لاحقاً من حدة تصريحاتها هذه.
لعل تصعيد لاغارد في موقفها يجد ما يبرره بعدما هاجمت أثينا صندوق النقد واعتبرته مسؤولاً عن تفشيل محاولات التوصل إلى اتفاق، حيث قال وزير مالية اليونان أمام برلمان بلاده بوجوب التفاوض من الآن فصاعداً مع المفوضية الأوروبية، وليس في إطار سخيف وغير شفاف لا يتوافق مع المبادئ الأوروبية، غامزاً من قناة صندوق النقد، الذي تتهمه اليونان بالتعنّت.
وفي دلالة أخرى على عُمق الأزمة بين الطرفين، أتى تصريح وزير الداخلية اليوناني، نيكوس فوتسيس، الذي قال قبل أسبوع إن أثينا ليس لديها المال لدفع المستحقات لصندوق النقد في حزيران الجاري، فيما قابل متحدث من الصندوق في واشنطن هذا الكلام بتصعيد واضح جازماً بأن اليونان ستُحرم من الحصول على الأموال التي تحتاج إليها إذا تخلفت عن سداد المستحقات.
ويصر الدائنون على سياسة التقشف التي تعتبرها أثينا كارثية للاقتصاد اليوناني ولأوروبا، كما يقول وزير المال، الذي يوضح أن الاتفاق المطلوب سيشمل إصلاحات حول الوظائف والضمان الاجتماعي والدين العام، فيما تريد حكومات منطقة اليورو أن تنفذ اليونان إصلاحاً لنظام معاشات التقاعد ورفع الضريبة على القيمة المضافة وتحرير سوق العمل وبيع المزيد من موجودات الدولة وإصلاح النظام الإداري وإنشاء هيئة مستقلة للمالية العامة ومعالجة مشكلة القروض المتعثرة، وكل ذلك قبل أن تقدم مزيداً من القروض الإنقاذية إلى أثينا، وهي تمارس ما تعتبره اليونان «ضغوطاً خانقة».
في المقابل، تعترض حكومة أثينا على بعض المطالبات، وترفض بشدة تضمين الاتفاق أي اقتطاعات جديدة في الرواتب ومعاشات التقاعد، بينما سرت أنباء عن تحقيق تقدّم الأسبوع الماضي بشأن زيادة الضريبة على القيمة المضافة.
تعثّر مصرفي متزايد
في غضون ذلك، برزت جملة مؤشرات تشير إلى ضعف القطاع المصرفي اليوناني، فضلاً عن ضعف مالية الدولة، حيث انخفضت الودائع المصرفية إلى أدنى مستوياتها في أكثر من 10 أعوام، مع استمرار المخاوف بشأن عبء الديون في البلاد والخروج المحتمل من منطقة اليورو.
وبحسب معطيات المصرف المركزي الأوروبي، بلغت الودائع، التي تشمل كافة ودائع الأسر والشركات، إلى 139,4 مليار يورو في نيسان الماضي، بهبوط نسبته 3,9 في المئة عن الشهر السابق.
في هذا السياق، أعلن أكبر المصارف اليونانية على الإطلاق (البنك الأهلي اليوناني) تسجيل خسارة في الربع الأول من العام الجاري، حيث أبطلت مخصصات الديون المتعثرة أثر الأرباح في وحدته التركية «فاينانس بنك»، مشيراً إلى أنه سجل خسارة فصلية صافية قدرها 159 مليون يورو، مقارنة مع خسارة 1,1 مليار يورو في الفصل الرابع من العام الماضي، وذلك بعدما ارتفعت القروض المتعثرة إلى 24,3 في المئة من محفظة قروضه.
بالإجمال، بلغت مخصصات القروض المتعثرة في اليونان إلى 323 مليون يورو، بارتفاع نسبته 18 في المئة عما كانت عليه في الفصل السابق.
لكن في إشارة أفضل نسبياً، قلّص رابع أكبر مصرف يوناني من حيث الأصول (ألفا بنك) خسائره إلى 115,8 مليون يورو من 440,2 مليون يورو في الربع الأخير من العام الماضي. ومع ذلك ارتفعت القروض المتعثرة إلى 33,8 في المئة من محفظة قروضه آخر آذار الماضي.
الحل مصلحة للطرفين
على كل حال، وفي ضوء مختلف المؤشرات التي تؤكد حراجة الموقف اليوناني التفاوضي مع الدائنين، مع استمرار التراجع الاقتصادي والمالي في البلاد على كافة المستويات، لا يعدو التهديد بإخراج أثينا من «زمرة» اليورو كونه وسيلة لضغوط تملي عليها إرادة الدائنين، لكن المواقف الدولية الرافضة للفكرة تعزز احتمالات عدم المضي بها حتى النهاية.
فمع أن استطلاعاً في فرنسا أجراه معهد «إيفوب» سأل المشاركين عما إذا كانوا يؤيدون إخراج اليونان من منطقة اليورو في حال توقفت عن سداد ديونها، وأعرب فيه 64 في المئة منهم عن تأييدهم للفكرة، فقد وجد بقاء اليونان عضواً في المنطقة دعماً من الولايات المتحدة واليونان والعديد من الدول الأُخرى.
ومع أن كبير الخبراء الاقتصاديين لدى صندوق النقد، أوليفر بلانكارد، أكد أن المصرف المركزي الأوروبي يملك الوسائل التي تمكّنه من احتواء أزمة ديون اليونان، وأن منطقة اليورو قادرة على التكيف مع خروج اليونان منها، فقد حض وزير الخزانة الأميركي، جاك ليو، المهيمنة بلاده على الصندوق، الدائنين الدوليين على إبداء المرونة في المفاوضات، باعتبار أن خروج اليونان المحتمل من منطقة اليورو تصاحبه عواقب لا يمكن التنبؤ بها. وفي الإطار عينه، جاء تحذير حاكم مصرف اليابان المركزي، هاروهيكو كورودا، من أن منطقة اليورو لن تبقى الاتحاد النقدي المستقر الذي كانت عليه ما أن يغادرها أي بلد.
وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن أزمة الديون اليونانية لا بد وأن تجد حلاً ولو موقتاً، باعتبار أن صمود أثينا في مواجهة الضغوط الخارجية الهائلة يحتاج إلى معجزة مالية خارقة، على أن تدفع أثينا ثمناً «معقولاً» مقابل الاتفاق، يكون من شأنه أن يقيها شر الوقوع في فخ العجز عن السداد ولا يكسر هيبتها سواء أمام الدائنين أو الناخبين على السواء، كما يقي في الوقت عينه منطقة اليورو من لعنة التفكّك والانهيار تباعاً بعد عقود طويلة أمضتها في تعزيز وحدتها وبلورة كيانها السياسي والاقتصادي.