لم تعد خسائر سورية من الحرب تقتصر على مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية، بل امتد إلى تاريخها، حيث انتعشت تجارة الآثار المهربة.
وكشف تطوران حدثا مؤخراً، عن جريمة سرقة وتهريب الآثار، التي لم توثقها المعارضة ولم تلاحقها المؤسسات الحقوقية، حسب رئيس تجمع المحامين الأحرار، غزوان قرنفل، لـ”العربي الجديد”، الذي أشار إلى أن سيطرة داعش على مدينة تدمر الأثرية كشف عن المخاطر التي تتعرض لها آثار سورية.
واكتفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” بالتحذير والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في تدمر. وتبادل أطراف الصراع الاتهامات حول ما يمكن أن يحصل للمدينة الأثرية ومحتوياتها، وباتت المدينة عرضة للتخريب والسرقة.
أما الحدث الثاني، حسب قرنفل، فتجلى في ضبط السلطات التركية، في مدينة غازي عنتاب القريبة من الحدود السورية أخيراً، نحو 168 قطعة أثرية، وأختاما وعملات وتماثيل “الصورة المرفقة” تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية والعثمانية، في منزل السوري أحمد مصطفى “33 عاماً” بعد إفشاء صفقة البيع على إثر الخلاف مع الزبائن على السعر.
وقال قرنفل إن سرقة الآثار والاتجار بها ليست جريمة عادية كأي جريمة من تلك التي نص عليها قانون العقوبات السوري، بل هي في هذه الظروف ترقى إلى مستوى جريمة الخيانة الوطنية، وهي طعنة في ظهر سورية واتجار بتاريخها.
وراجت عمليات التنقيب وسرقة وتهريب الآثار منذ نهاية عام 2011، عقب تحرير مناطق شرق إدلب، حيث بدأت عمليات التنقيب في جبل الزاوية وتل دينيت ومقابر سرمين الأثرية، كما جنى تجار الآثار الذهب من التنقيب في الرقة وريف حلب.
وكان التنقيب بطرق بدائية يتخلله تخريب للمواقع والمدافن، لكنه تطور من خلال إدخال أجهزة كشف وتنقيب، أو من خلال طرائق الحفر، كما يقول سكان المنطقة.
ويقول الباحث التاريخي محمد حسن، من ريف إدلب، لـ”العربي الجديد” إن تهديم ونقل نظام الأسد الآثار من المناطق الثائرة بدأ منذ مطلع الثورة عام 2011، مشيراً إلى رسالة رئيس الوزراء الأسبق، عادل سفر، إلى مسؤولين في النظام، شملت تحذيرات من إدخال عصابات دولية محترفة إلى سورية معدات وأجهزة اتصالات لسرقة المخطوطات والمتاحف وخزائن المصارف.
كما اعترف مدير الآثار والمتاحف التابع للنظام، مأمون عبدالكريم، بأن قوات الأسد أفرغت المتاحف البالغة 40 متحفاً، قبل انسحابها من المدن والريف، لتكون كنوز سورية وآثارها، رهينة بيد النظام، ومصدر ثروة إضافيا يتاجر بها لتمويل الحرب والثراء، حسب حسن.
وأوضح حسن أن مديرية الآثار والمتاحف اعترفت بتضرر 59 موقعاً أثرياً خلال الربع الأول من العام الجاري، منها 20 موقعاً مصنفة كتراث عالمي، و3 مواقع موضوعة على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، معظمها في مدينة درعا وإدلب. كما طالت هذه الجريمة 750 موقعاً ومبنى أثرياً منذ بداية الحرب.
والتقى مراسل “العربي الجديد” بسمسار (وسيط) يبلغ من العمر 48 عاماً، يتنقل بين غازي عنتاب والريحانية وإسطنبول في تركيا، ويقوم بجلب الزبائن للمهربين بنسبة 20% من سعر القطعة، يحصل عليها من البائع.
ويقول الوسيط، الذي تخوف من ذكر اسمه، إن الآثار والعملات والكتب والمخطوطات تأتي من معظم مناطق سورية إلى تركيا، ولبنان وأوروبا مباشرة، مشيراً إلى أن مسؤولين تابعين لنظام الأسد وتجارا وأهالي يبيعونها للوسطاء في الداخل ثم يتم نقلها إلى الخارج.
ويكشف أن هذه التجارة تطورت خلال سنوات الحرب، حيث دخلت عليها آلات صك العملة الذهبية والفضية بتواريخ قديمة، خاصة ما أتى من “ريف مدينة حماة وتل منس”، أو الكميات الكبيرة التي أحضرها المهربون من “تل القرامل وتل الصوص” المحاذي للضفة اليمنى لنهر قويق، على بعد 25 كيلومترا شمال مدينة حلب، نتيجة التنقيب السريع عبر الجرافات.
ويتابع الوسيط الذي قلما تعنيه الخلفية التاريخية، أن عملي يبدأ من هنا بعد أن أرى “البضاعة”، ولا علاقة لي بالتهريب من داخل سورية ولا بإخراجها من تركيا “صار لدينا خبرة معقولة في كشف المزور، ودوري يتمثل في جمع المهرب مع التاجر، والحصول على نسبتي وساعتها ينتهي دوري”.
وعن جنسيات التجار الذين يشترون الآثار السورية، يقول إن منهم أوروبيين من ألمانيا واليونان وفرنسا، كما يوجد تجار عرب من منطقة الخليج خصوصاً.
وفيما يتعلق بالأسعار وتقديرها وكشف التزوير، يؤكد أن سعر العملة البيزنطية يتراوح بين 300 و400 دولار، والرومانية أغلى، ويصل سعر بعض القطع منها إلى 2000 دولار، لتأتي العملات العباسية بـ250 دولارا، والذهب الأموي غير المسبوك حديثاً زنة 4.2 غرامات بنحو 350 دولارا.
وهناك بعض العملات و”البضاعة” غالية كالكتب والمخطوطات القديمة التي يتم فحص عمرها عبر جهاز “كشف الكربون” وبعض العملات النادرة كالدينار الإسلامي رقم 77 وزنته نحو 4 غرامات، يصل سعره نحو 200 ألف دولار، فضلاً عن بعض التماثيل والأحجار الكريمة.
وفيما يتعلق بطرق إدخال الآثار السورية، يختم الوسيط بأن هناك طرق تهريب بعيدة عن المعابر يتم إدخال المهربات خلالها، وعادة ما تخرج إلى أوروبا عبر البحر.
وأكدت مصادر أن “داعش” أقام، منذ نهاية 2013، نظاماً للتنقيب عن الآثار يمنح خلالها إذنا بالتنقيب والحفر في مواقع محددة مقابل حصوله على نسبة 20% من قيمة المكتشفات، عدا التماثيل التي يتم تدميرها في الغالب.
وتعد تجارة الآثار أحد مصادر تمويل داعش، فضلاً عن النفط. وقال المسؤول في تنسيقية تدمر، ناصر الثائر، لـ”العربي الجديد”، إن تنظيم الدولة تعهد، الأسبوع الماضي، بعدم الاقتراب من المدينة الأثرية، لكن المتحف فارغ ولا يوجد فيه سوى بعض النسخ غير الأصلية من التماثيل الحجرية.