عندما قررت المملكة اتباع سياسة تقود إلى استقرار مستدام لسوق النفط العالمية، كانت تعرف مسبقا أن عوائدها النفطية ستتراجع بصورة كبيرة. إنها سياسة آنية لاستقرار نفطي عالمي يحتاج إليه العالم كله، خصوصا بعد أن رفضت البلدان المنتجة من خارج منظمة الأقطار المصدرة للنفط “أوبك”، التوقف عن إغراق السوق بالمعروض النفطي، رغم الاتصالات والمحادثات التي تمت بهذا الشأن. سينعكس انخفاض أسعار النفط على النمو في السعودية، هذا ما يؤكده صندوق النقد الدولي، وسبقه المسؤولون السعوديون في الوصول إلى هذا الاستنتاج. لكن اللافت، أن هذا النمو في العام الجاري سيوازي مثيله في العام السابق عند 3.5 في المائة. وهو أمر ليس سيئا كما قد يبدو للوهلة الأولى. الحفاظ على المستوى من عام إلى آخر يليه، في مثل الظروف التي تمر بها السوق النفطية، يعود أساسا إلى القوة التي يستند إليها الاقتصاد السعودي بشكل عام.
بالطبع، هناك تحديات كثيرة أمام المملكة في المرحلة الراهنة وفي المستقبل، وفي مقدمتها توظيف الشباب، الذي يرتبط بالنمو، ولا سيما أن صندوق النقد عرض احتمال أن يتباطأ النمو في المملكة في العام المقبل إلى 2.7 في المائة. وهي نسبة منخفضة بالفعل، خصوصا إذا ما استمرت أسعار النفط عند مستوياتها المنخفضة لأكثر من عام من الآن. غير أن ذلك يمكن مواجهته من خلال الأداء القوي والمتماسك للقطاع المالي في البلاد، الذي حظي بإشادة واضحة من قبل المختصين في صندوق النقد الدولي، ولا سيما فيما يرتبط بالعمليات التنظيمية والرقابية، الأمر الذي يدعم استقرار وتطور واستدامة النظام المالي برمته. في الاقتصاد (كما في كل شيء) لا تبقى الأشياء على حالها، خصوصا في ظل أحداث متغيرة واستحقاقات واجبة.
لا شك في أن الإنفاق الحكومي الكبير يساهم في تحريك الاقتصاد بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث للمملكة. وهذا الإنفاق الموجه يدعم الخطوات اللازمة لبناء اقتصاد مختلف عما كان عليه. إنه ليس إنفاقا استهلاكيا، بل هو إنفاق تنموي يحاكي متطلبات المستقبل. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن المملكة تستطيع أن تواجه المتغيرات الحاصلة على صعيد السوق النفطية، وفي الوقت نفسه باستطاعتها أيضا تحقيق الأهداف الرئيسة الخاصة باستقرار هذه السوق على الصعيد العالمي. لكن، لا تزال هناك فجوات عديدة في الحراك الاقتصادي، ولا سيما تلك المرتبطة بتنويع مصادر الدخل، والمواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل المحلية. غير أن هذا الأمر تحديدا، يحتاج إلى مزيد من الوقت خصوصا في مرحلة التمكين الاقتصادي الشامل في البلاد.
يبقى القطاع المالي في المملكة محركا رئيسا بل ضامنا قويا للأداء الاقتصادي بصورة عامة. وهذا ما دفع صندوق النقد للقول “ستساعد مستويات رأس المال والربحية والسيولة المرتفعة لدى المصارف السعودية، على تجاوز التباطؤ الحالي في وتيرة النمو الاقتصادي”. ومع تحسين كفاءة الإنفاق الحكومي بما يتناسب والمتغيرات، ستمضي المملكة في الطريق الذي وضعته لبناء كامل لاقتصادها. لا شك في أن العوائد النفطية العالية، كانت ستوفر الوقت فيما لو ظلت على مستوياتها السابقة، لكن الفوائض المالية تساهم بصورة مباشرة في سد الثغرات الناجمة عما يمكن وصفه بـ “التصحيح التاريخي للسوق النفطية”. فثمرات “التصحيح” ستكون جاهزة في المستقبل، خصوصا إذا سارت السياسة الراهنة وفق المخططات الموضوعة لها، وهذا بحد ذاته ضمان عالي الجودة نحو آفاق اقتصادية جديدة.
هناك كثير من العمل، بما في ذلك رفع مستوى كفاءة استخدام الطاقة، وجودة الإنفاق الحكومي، دون أن ننسى، أن من أهم النقاط في هذا الصدد، أن تتمكن المملكة من رفع مستوى الإيرادات غير النفطية في المستقبل.