Site icon IMLebanon

إقرار الموازنة كمدخل إلى تقوية الثقة بالدولة والبلد

MinistryFinance
مكرم صادر (أمين عام «جمعية المصارف»)
اعتبرت بعثة صندوق النقد الدولي في تقريرها الأولي عن زيارتها إلى لبنان ضمن المادة الرابعة للصندوق أن إقرار موازنة للعام 2015 في لبنان يشكّل الخطوة الأولى لتقوية الثقة بالاقتصاد.
فالثقة حسب البعثة هي في أساس، بل في صميم النموذج الاقتصادي والمالي القائم في البلد. وهذا صحيح انطلاقاً من كون المصارف توفـّر التمويل للدولة وتوفـّر احتياطي العملات الأجنبية للبنك المركزي وتوفـّر القروض بحجم كافٍ للمؤسّسات والأفراد. وهذا التمويل المصرفي الذي يتعدّى حالياً في مكوّناته الثلاثة 85 مليار دولار (167 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) ما كان ممكناً لولا قاعدة الودائع في القطاع المصرفي التي تعدّت بدورها 145 مليار دولار مع نهاية شهر آذار الفائت. وهذا الحجم الواسع من الودائع (ثلاث مرات تقريباً حجم الناتج) يتطلّب حكماً ثقة قوية من قبل المودعين، مقيمين وغير مقيمين. وما لا تقوله بعثة الصندوق صراحةً بل تلميحاً هو أن هذه الثقة ليست مستجدّة بل تعود لعقودٍ خلَت؛ وليست مبنيّةً على فراغ بل على تجربة طويلة أثبتت خلالها المصارف حرصاً على سلامة الودائع؛ بل وأكثر حمت إدارات المصارف بالتعاون الوثيقٍ مع السلطات النقدية والرقابية هذه الودائع العائدة والناتجة عن عمل اللبنانيّين وجهدهم وعرق جبينهم في الداخل والخارج، القريب والبعيد. وقد أبقتها المصارف بمنأى عن العمليات المشبوهة، فالمال غير المشروع يُبعِد ويُهجِّر المال المشروع، تماماً مثلما أن العملة السيّئة تطرد العملة الجيّدة. كذلك، أبقت المصارف بتعاونها مع المجتمع الدولي في مجال مكافحة تبييض الأموال ودائع الناس بمنأىً عن أيّة عقوبات رغم ما يحوط بالبلد من مشكلات.
وبالعودة إلى مشروع موازنة العام 2015 ، لا بدّ من الإقرار بدايةً بأن وزير المال علي حسن خليل أحسن بعرضه على الحكومة، ونأمل لاحقاً أن يُرسَل إلى المجلس النيابي مشروعاً متكاملاً. أما المدقق في العرض المقدّم وفي مشروع الموازنة الأساسي الذي تمّت بلورته العام 2014، فيجد فرقاً قدره 1361 مليار ليرة، إذ بلغ إجمالي الموازنة التي قُدِّمت إلى مجلس الوزراء 22001 ملياراً مقابل 23362 ملياراً لمشروع موازنة العام 2014. ويعود معظم الفارق (1200 مليار ليرة) المشار إليه إلى تدنّي كلفة فاتورة الكهرباء الناتج بدوره عن تدنّي كلفة الطاقة جرّاء تراجع أسعار النفط عالمياً.
وتُظهِر المعطيات التي قدّمها خليل إلى الحكومة أن العجز المقدَّر قد يُقارب 6950 مليار ليرة أي 8.6 في المئة من الناتج المقدَّر بقيمة 80790 ملياراً للعام 2015، ما يعني زيادة في النفقات تقارب الألف مليار ليرة، مقارنةً مع النفقات المحقّقة فعلياً (21032 ملياراً) عام 2014. فتكون نسبة زيادة العجز المقدَّر قد قاربت الـ50 في المئة. وهكذا يشكّل العجز المقدّر للعام 2015 النقطة الأساسيّة التي يجدر التوقّف عندها، بالإضافة إلى «النفقات الاستثمارية» التي تمَّ تقديرها بـ 2000 مليار ليرة (!!)، أي بزيادة نسبتُها 122 في المئة، عن تلك المحققة فعلياً العام 2014! وبالرغم من صوابيّة هذا التوجّه، نظراً لشبه غياب الاستثمارات العامة في البنى التحتية على امتداد السنوات العشر الماضية (بحدود 1.3 في المئة من الناتج)، يبقى اعتماد مبلغ بهذا الحجم غير واقعي برغم ضرورته. فالقدرة الإنفاقية المنتجة للدولة متدنّية ومحدودة تقنياً وإدارياً وإجرائياً كما أن الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، لإجراء هذا الحجم من الاستثمارات العامة محدودة بدورها. ويشهد على ذلك ما تمَّ إنجازه خلال أفضل السنوات الماضية في لبنان.
طبعاً، لا ينفصل تضخيم النفقات الاستثمارية عن مسألة العجز المقدّر في الموازنة. والحقيقة أنه إذا تمَّ اعتماد حجم من النفقات الاستثمارية بحدود 1000 إلى 1200 مليار ليرة سنوياً مع الأخذ في الاعتبار القدرة الاستيعابية للاقتصاد والطاقة الإنفاقية المجدية للدولة، يصبح العجز مقبولاً كنسبة من النفقات العامة (22 في المئة) أو كنسبة من الناتج المحلي (6 في المئة).
أكثر وأبعد من ذلك، إن اعتماد حجمٍ مقبولٍ من العجز يفتح الباب أمام عدم تحميل الاقتصاد أعباء ضريبية إضافية بغرض تمويل إنفاق استثماري متعذّر التحقيق! فحصيلة الضرائب والإيرادات التي حقّقتها الخزينة العام 2014 والبالغة 9.78 مليار دولار، من دون احتساب العائدات الاستثنائية لتحويلات وزارة الاتصالات، ستكون كافية دونما حاجة الى تحميل الاقتصاد ضرائب إضافية تفوق الـ500 مليون دولار كما يقدِّرها المشروع المعروض على الحكومة!.. هذا من دون أن نأخذ سلسلة الرتب والرواتب في الحسبان.
معظم المؤشرات الإحصائية التي سجّلتها التطورات الاقتصادية والمالية في الفترة الأخيرة جاءَت سلبية. فمعدّلات النمو الاقتصادي الحقيقية خلال السنوات الثلاث الماضية تراوحت عند 2.5 في المئة؛ وارتفعت المديونية العامة من 63.5 مليار دولار الى 66.6 ملياراً برغم تحويلات الاتصالات؛ وزادت سيولة الاقتصاد بمعدّل 6 في المئة، كمعبِّر عن تباطؤ زيادة الودائع لدى الجهاز المصرفي بنسبة 6 في المئة في العام 2014 مقابل 9 في المئة العام 2013. ويعود تراجع نمو الودائع، من جهة أولى، إلى استمرار العجز في المدفوعات الخارجية، ومن جهة ثانية، إلى ضعف نمو الاقتصاد اللبناني. وأخيراً، إن المؤشر الأهم لئلا نقول الأخطر تمثّل في استمرار العجز الكبير في ميزان المدفوعات الجاري وبنسبةٍ تفوق 24 في المئة من الناتج. وتكاد هذه النسبة أن تكون الأعلى عالمياً. وتمويل هذا العجز الجاري الضخم بكل المقاييس يتطلّب حركة أموال ورساميل واستثمارات مباشرة وغير مباشرة ضخمة باتّجاه لبنان في وقتٍ تراجعت تدفّقات الرساميل الوافدة إلى لبنان تراجعاً كبيراً مما جعل ميزان المدفوعات الكلّي يُظهر عجزاً خلال السنوات الخمس الماضية.
استمرار المؤشرات السلبية
وتؤكّد المؤشّرات المتوافرة عن الفصل الأول من العام 2015 استمرار معظم المؤشّرات الاقتصادية السلبيّة. فالمساحات المرخّصة للبناء سجَّلت تراجعاً بنسبة 20 في المئة، مقارنةً مع الفصل الأول من العام الماضي 2014. والواردات السلعية تراجعت في الفترة ذاتها بنسبة 23 في المئة. وحتى تسليفات المصارف للقطاع الخاص أظهرت نمواً متواضعاً لا تتعدّى نسبتُه 0.7 في المئة. أما ميزان المدفوعات، فقد أظهر في الأشهر الثلاثة من العام 2015 عجزاً تخطّى 850 مليون دولار يقابله للفترة ذاتها من العام 2014 فائض تجاوزت قيمته 300 مليون دولار.
إنطلاقاً من وضعية الاقتصاد اللبناني في العامين 2014 و2015 والتي توقفنا عندها أعلاه، يبدو لنا ضرورة إعادة النظر في مشروع الموازنة العامة للعام 2015، أولاً للحفاظ على نسبة عجزٍ لا تتجاوز 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وثانياً للتريّث في تحميل الاقتصاد الذي يعاني من الركود ضرائب ورسوماً جديدة تذهب حصيلتها كلّها أو بمعظمها لتمويل النفقات الجارية في نهاية المطاف على ضوء القدرة الاستيعابية المحدودة للاستثمارات المنتجة. إن في ذلك مصلحة وطنية، ولا نخال وزير المال إلاّ حريصاً عليها.
أخيراً، بالعودة إلى بعثة صندوق النقد الدولي، ومن أجل تعزيز مناعة «Resilience» النظام المالي اللبناني، ينصح خبراء الصندوق أولاً بأن تبادر الحكومة إلى معالجة الاختلال الماكرو اقتصادي الأساسي المتمثل بعجز المالية العامة، وثانياً بأن تطوِّر السلطات سوقاً مالية ذات ديناميّة ذاتيّة بحيث لا يظلّ البنك المركزي وسيطاً بين المصارف والخزينة، وثالثاً بأن تُرسي الحكومة لسياسات إنمائية تتضمّن توزيعاً أكثر عدالةً لثمار النمو.
بعثة صندوق النقد الدولي على حقّ. يجب ألاَّ ينامَ أحدٌ على حرير مقولة المناعة. فالمتحوِّل في عالم الاقتصاد والمال أقوى من الثابت، كما هي الحال في سُنَّةِ الطبيعة.