لا يخرج نأي القوى السياسية عموما، ولا سيما منها المسيحية، بنفسها على نطاق لافت عن اتخاذ مواقف سلبية أو ايجابية من الزيارة الثانية للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لدمشق هذه المرة، عن التعقيدات والمتغيرات الهائلة التي طرأت منذ الزيارة الاولى لبنانياً وسورياً. بخلاف الضجة الواسعة التي واكبت الزيارة الاولى اتسم المشهد الحالي بهدوء يكاد يقارب التجاهل، ليس من منطلق عدم الاهتمام بالزيارة مقدار تبدل المعطيات التي كانت تحفز على اطلاق ردود الفعل تأييدا أو رفضا أو ما بينهما. حتى ليصح القول ان التعامل الحالي الغالب مع الزيارة يندرج في خانة رمادية، وربما ينسحب الامر على المؤيدين كما على المتحفظين والرافضين ضمنا.
تعزو اوساط سياسية مسيحية مستقلة عبر صحيفة “النهار” هذا التبدل الى مجموعة عوامل داخلية لبنانية واُخرى سورية لم يعد معها مستغربا ان تمر الزيارة الثانية للبطريرك بما مرت به الاولى التي كان للعاصفة التي فجرتها آنذاك ما يبررها واقعيا وموضوعيا. فعلى الصعيد السوري اولا، باتت المخاوف على المسيحيين سواء في سوريا أو في ما تبقى من بلدان ومن ابرزها لبنان، العنوان الحصري الاول لكل تحرك يقوم به بطاركة الشرق والهاجس الذي لا يعلوه أي اولوية اخرى مهما واكب هذه التحركات من انتقادات محتملة. وفي حالة الزيارة البطريركية الحالية لدمشق لا تخفي الاوساط ان اختيار دمشق مكانا لعقد قمة لبطاركة الشرق اثار الكثير المكبوت من التحفظات لجهة ما يمكن توظيفه في هذه القمة لمصلحة النظام السوري. ولكن لا يمكن تجاهل العامل الاساسي الذي املى زيارة البطريرك الراعي وهو ان البطريرك الأرثوذكسي يوحنا العاشر هو صاحب الدعوة والمبادرة للنظر في اوضاع المسيحيين في احلك الظروف واخطرها وان البطريرك يوحنا اضطلع منذ انتخابه بدور مشهود في سوريا كما في لبنان، حاملاً هذا الهم المصيري الوجودي بصرف النظر تماما عن المواقف الداخلية من وضع معظم مسيحيي سوريا مع النظام السوري. وتبعا لذلك لم يكن مستغربا ان يشارك البطريرك الماروني في قمة تعقد في البطريركية الارثوذكسية ويغيب عنها رأس الكنيسة المارونية فيما يشارك فيها رؤساء الطوائف المسيحية الاخرى قاطبة.
في مقابل ذلك، تعترف هذه الاوساط المسيحية نفسها بان ثمة محاذير وربما اخطاراً لا يمكن تجاهلها في انعقاد هذا النوع من التحركات تحت سقف المكان والظروف والإيحاءات التي تعممها ولو انها محصورة تحديدا في البحث في اوضاع المسيحيين. اذ ان الصراع السوري بلغ من الاهوال حدا فائق الخطورة وبات يضع المسيحيين وسائر الأقليات في سوريا والمحيط امام مرحلة لم يشهدوا مثيلا لها في تاريخ المنطقة. وهو امر يبرر تاليا التحفظات عن كل ما يؤثر عليهم سلبا ويزيد التبعات بما يوجب التحسب لكل خطوة أو موقف أو اتجاه، باعتبار ان المسيحيين والاقليات في سوريا صاروا بمعظمهم الآن بين مطرقة تلقي تبعات قربهم من النظام ومطرقة التطرف الاصولي الارهابي من جهة اخرى.
أما على الصعيد الداخلي اللبناني فتتوازى أيضاً كفة التعقيدات التي تواكب زيارة البطريرك الراعي بما يفسر اختلاف التعامل السياسي معها عن الزيارة الاولى. ذلك انه لا يبدو ان أي فريق أو طرف يرغب في تجدد ارباك علاقته ببكركي في هذه المرحلة، سواء عن اقتناع أو على مضض في وقت تمر فيه علاقة البطريرك الراعي بالقوى السياسية بهبوط وطلوع وبتجاذبات مستمرة جراء ازمة الفراغ الرئاسي التي يدأب البطريرك على تحميل القوى السياسية والكتل النيابية مسؤوليتها بشكل معمّم تقريبا ويحاول الإبقاء على حمل العصا من وسطها كما فعل في اجتماع النواب المسيحيين لقوى ١٤ آذار والمستقلين في بكركي في مناسبة مرور سنة على شغور كرسي الرئاسة الاولى في ٢٥ أيار الفائت. ولعله العامل الاول والاساسي كما تعتقد هذه الاوساط في نشوء حالة متعارف عليها على نطاق واسع بالابتعاد ما امكن عن اثارة غيوم اضافية في علاقات بكركي مع القوى السياسية وترك البطريرك يتحمل مسؤوليته في أي خطوة يعود تقريرها اليه والى بكركي في امور كمثل الزيارة الحالية لدمشق ما دام افتعال أي تحفظ أو رفض لن يؤدي الا الى زيادة التوتر. وحتى القوى المؤيدة للنظام السوري أي في فريق ٨ آذار بدت بدورها غير راغبة في الانخراط العلني في اجواء هذه الزيارة وتركت لإعلامها ان يظهر ابراز الزيارة والقمة التي واكبتها.
وسط هذه الاجواء والمعطيات ربما يكون الاهم والابعد من التفاعل مع الزيارة الانطباعات القاتمة التي تغلب على كل ما يتصل بوضع المسيحيين في المنطقة والتي تحفز مسيحيي لبنان اكثر فاكثر على انتهاج سياسات تكون في مستوى التحديات الوجودية باعتبار ان واقعهم لا يزال متمايزا تماما عن اوضاع مسيحيي المنطقة بما يضاعف مسؤوليتهم في الحفاظ على وجودهم وتأثيرهم ودورهم. وتشير الاوساط هنا الى انه من المفارقات السلبية التي تواكب الازمة الرئاسية اللبنانية ان اصبحت هذه الازمة ملازمة للاخطار المحدقة بالمسيحيين في المنطقة اذ يجري وضعها على مستوى الاخطار المصيرية خارجا فيما لا يحرك ذلك ساكنا في جدار الازمة في الداخل كأن المعنيين الأوائل بها لم يدركوا بعد هذه الحقيقة.