يغيب عن العديد من الناس أن أموالهم المدخرة في حسابات مصرفية أو المستثمرة في أدوات مالية، قد تستخدم في أغراض ضد الإنسانية، مثل تمويل مشاريع مدمرة للبيئة أو صناعات أدوات التعذيب أو شركات تغذي النزاعات القبلية والحروب في دول فقيرة، بغرض السيطرة على ثرواتها مثلما يحدث في أفريقيا.
وربما يكون هؤلاء الأفراد أو أصحاب الحسابات من أنصار حقوق الإنسان والبيئة النظيفة، وضد خروقات حقوق الإنسان ودعم الأنظمة الدكتاتورية، ولكنهم في النهاية يجهلون أن ادخاراتهم تستخدم في أغراض ضد الإنسانية، وتصل أحياناً لمستوى ارتكاب جرائم ضد البشرية.
فالمصارف العالمية كانت وحتى وقت قريب تهتم فقط بالربحية، ولا يهمها الجانب الأخلاقي في استثمار الأموال. ولكن في الفترة الأخيرة بدأت المصارف تستجيب للضغوط التي تمارسها جماعات الحقوق المدنية التي نشأت كجماعات ضغط في الدول الغربية، بحكم الوعي الاستثماري المنتشر في أوروبا وأميركا.
وتراقب هذه الجماعات استثمارات البنوك وتوظيفات الأموال، وتتأكد من أنها لا تستخدم في أغراض تضر الإنسان. لقد نجحت هذه الجماعات في إجبار العديد من البنوك على الانسحاب من الاستثمارات الضارة بالبيئة والأسلحة الفتاكة وأدوات التعذيب والأجهزة الأمنية الخاصة بالتجسس ضد المدنيين.
مصرف “هبوعليم” الإسرائيلي في القائمة السوداء
كمثال لثمار هذه الضغوط فقد أدرج مصرف “دويتشه بانك”، أكبر مصرف في ألمانيا ، في نهاية العام الماضي بنك “هبوعليم” الإسرائيلي على قائمة الشركات التي هي موضع تساؤل أخلاقي بالنسبة للاستثمار، واعتبرها من الشركات ذات السلوك المشكوك فيه أخلاقياً، نتيجة ممارسة نشاطها في المستوطنات الإسرائيلية بالأراضي العربية المحتلة.
ففي بريطانيا مثلا، تأسست جمعيات تناصر البيئة الخضراء والحياة البرية وحماية الغابات والحيوانات المتوحشة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
كما أسست جمعيات حقوق الإنسان ومناصري البيئة عدداً من صناديق الاستثمار النظيف أو الاستثمار الأخلاقي. وهي صناديق متخصصة في المشاريع التي لا تضر الإنسان والبيئة والحيوانات.
بدأت هذه الاستثمارات بحوالى مليار إسترليني في بداية القرن الجاري، ولكنها سرعان ما ارتفع حجمها إلى 7 مليارات جنيه إسترليني، وتضاعفت خلال الأعوام الأخيرة.
وفي أوروبا ارتفع حجم الأموال المستثمرة في صناديق الاستثمار المسؤول أو الأخلاقي ليصل إلى 372 مليار يورو بنهاية العام الماضي. وذلك حسب مسح أجراه بيت تدقيق الحسابات العالمي “كي بي إم جي” أخيراً. من بين هذه الاستثمارات 322 مليار دولار في قطاعات مختلفة من الصناعات والتقنيات النظيفة، و31.8 مليار يورو في مشاريع بيئية و10.7 مليارات يورو في نشاطات اجتماعية. وتمثل أوروبا نسبة تفوق 50% من الاستثمارات المسؤولة عالمياً، وتأتي بعدها أميركا وكندا.
وتشير دراسة سويسرية أجريت على 19 مؤسسة مالية من الشركات التي باتت تهتم بالاستثمارات المسؤولة، إلى أن النتائج المالية التي حققتها ليست أقل مردودية من عوائد أموالها في المجالات التقليدية.
وتشير الدراسة السويسرية إلى أن المستثمرين أصبحوا أكثر وعياً بأنه من مصلحتهم إعطاء الأولويةللمؤسسات التي تحترم المقاييس البيئية والاجتماعية التي تحمي الإنسان.
ويقول الخبير السويسري إيفو كنوبفل، مدير شركة “أون فاليو” الاستشارية المتخصصة في الاستثمارات الأخلاقية، إن “المستثمرين بصدد استيعاب أبعاد العولمة، وفهم أن بعض الحقائق القائمة، كالتغييرات المناخية يمكن أن تكون لها انعكاسات هائلة على بعض القطاعات الاقتصادية، لذلك، بدأوا وبدون ضجيج في أخذ هذه العوامل بعين الاعتبار”.
ولكن يضيف “بطبيعة الحال، لم يتحول مديرو الثروات كلهم إلى “قدّيسين”، ولكنهم اكتشفوا أن بإمكانهم تحقيق أرباح مالية جيدة في قطاع الاستثمارات الأخلاقية”.
لا يزال الطريق طويلاً
رغم هذا التطور الكبير في نمو الاستثمارات الأخلاقية، يقول خبراء سويسريون إن الطريق لا يزال طويلاً، ويحتاج إلى توعية وترويج بأهمية الاستثمار في الصناديق والشركات الأخلاقية. ويشيرون إلى أن هذه الاستثمارات لا تزال منخفضة ولا تتجاوز 1% من إجمالي المبالغ المستثمرة في مجال إدارة الثروات، أي مجرد قطرة في محيط الاستثمارات في سويسرا.
من جانبه يرى إيفو كنوبفل أن الإحصائيات الرسمية متشائمة جداً، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار، إلا الصناديق الاستثمارية المتخصصة التي تعلن أنها صناديق أخلاقية. ويعتقد أن الإشكال الحقيقي، بالنسبة للمواطن السويسري يتمثل في أنه ليس من السهل دائما اقتناء أسهم في صناديق استثمارية أخلاقية. ويشير إلى أن كبريات الشركات المسجلة في البورصة لديها حساسية مفرطة ضد الاستثمارات الأخلاقية وتتخوف من نموها.
ولكن رغم هذه العقبات يرى العديد من خبراء المال في سويسرا وألمانيا، أن الصناديق الاستثمارية الأخلاقية أحدثت تغييراً في عالم المال، حيث يقول إيرول بيسلان من بنك سارازان السويسري: “لا يمكن القول إن كل شيء وردي بالنسبة للصناديق الأخلاقية. لكن هناك، على الأقل، بعض الشركات التي أصبحت تفكر بشكل أخلاقي”.