عدنان كريمه
المواقف الأميركية المتناقضة حول الوضع في لبنان، تتسبب بارباك رجال الأعمال والمستثمرين الذين يفتشون بقلق واهتمام بالغين، عن مجالات آمنة لاستثمار أموالهم، خصوصاً بعدما تراكم فائض السيولة لدى المصارف متجاوزاً ثلاثين مليار دولار، الأمر الذي دفعها الى زيادة حجم ودائعها لدى البنك المركزي اللبناني.
ففي آواخر آيار (مايو) الماضي، حذرت الخارجية الأميركية مواطنيها من السفر الى لبنان بشكل كامل نتيجة استمرار القلق على امنهم وسلامتهم، مذكرة بمواطنين أميركيين كانوا ضحايا لحوداث تفجيرات وتوترات حصلت في العام الماضي.
وأوضحت السفارة الاميركية في بيروت في بيان أنه “من المهم أن نوفّر لمواطنينا معلومات واضحة حول المخاطر المحدقة”، مشيرة أن “التغييرات الموضوعيه التي استجدت أمنياً، من المتفجرات الى الوضع في عرسال والتوترات في مزارع شبعا، استدعت تسليط الضوء على الوضع الأمني المستجد”.
وبعيد هذا التحذير، وبالتحديد في نهاية آيار (مايو) 2015، أكدت واشنطن مساندتها لجهود لبنان في دعم شركاته الناشئة، وذلك في مؤتمر عقد في نيويورك، بتنظيم من غرفة التجارة اللبنانية ـ الاميركية، وبحضور ممثلين عن 40 من الشركات الناشئة، ونحو خمسين مستثمراً، من أهم مستثمري أميركا والعالم.
واعتبر لاري سيلفرمان، نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، الذي حضر المؤتمر،”أن المشاركين يبعثون التفاؤل في مستقبل لبنان، وهم مصدر قوة وإبداع لسمعته الدولية”. مؤكداً “دعم الولايات المتحدة لحفز استثمارات المصارف الخاصة في البرامج الناشئة، وهي وسيلة خلاقة لايجاد مؤسسات جديدة”.
وفي الوقت نفسه اطلقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالشراكة مع “بيريتيك” مبادرة ريادة الاعمال، أما رئيس غرفة التجارة اللبنانية ـ الاميركيه سليم الزعني، فقد أوضح “ان رسالة المؤتمر تكمن في التأكيد على عدم اضطرار الشباب للهجره بحثاً عن ممولين لافكارهم ومشاريعهم، بل باستطاعتهم الاستقرار في لبنان وتأسيس شركات في بلدهم عبر تمويل أجنبي”.
وأكد الزعني ان الوفد اللبناني “لم يلمس أي مخاوف لدى الجانب الأميركي من الوضع في لبنان”،مشيراً ان “السياسة الأميركية تهدف إلى تشجيع الشركات الناشئة اللبنانية من خلال الاستثمار فيها، خصوصاً وأن هذا النوع من الشركات لا يتأثر بالأوضاع الأمنية، بل بجودة الاتصالات التي أصبحت مقبولة جداً في لبنان”.
شراكة تجارية
وقبل شهر تقريباً، وبالتحديد في 28 نيسان (ابريل) 2015، رعى السفير الاميركي في بيروت، دايفيد هيل افتتاح معرض “مذاق من أميركا” (Taste of America)، وقد دعا القطاع الخاص اللبناني الى العمل مع نظيره الأميركي لإقامة المزيد من الشراكات التجارية، التي تساعد على تحقيق الرخاء في لبنان.
واعتبر هيل “أن المعرض نموذجاً مثالياً لإظهار حرص الشركات الأميركية على القيام بأعمال تجارية في لبنان”، مشيداً باللبنانيين “لصلابتهم كمقاولين نجحوا وتألقوا في اماكن، التحديات والمخاطر فيها أعلى بكثير مما هي عليه الحال في لبنان”.
ولكن في الوقت نفسه شكا السفير هيل من ضآلة حجم التبادل التجاري بين البلدين، لأنها لا ترتقى إلى مستوى العلاقات السياسية، وتشير الإحصاءات الجمركية إلى تراجع كبير في حركة التجارة بينهما، خلال السنوات الثلاث الاخيرة، فالصادرات الأميركية الى لبنان تدهورت بشكل تدريجي من 2.3 مليار دولار عام 2012 الى 1.5 مليار عام 2013، ثم الى 227 مليون دولار عام 2014، وبموازاة ذلك تراجعت الصادرات اللبنانية الى الولايات المتحدة من 65 مليون دولار عام 2012 الى 64 مليوناً عام 2013، ثم الى 59 مليون دولار عام 2014.
وقد تراجعت الصادرات الأميركية الى لبنان من المرتبه الأولى الى المرتبه الخامسة، وتدهورت بنسبة 48 في المئة، مع العلم أن الدولار الأميركي كان ضعيفاً، في تلك الفترة ولم يستفد لبنان من ميزة “الصادرات الرخيصه”، ولكن في ضوء الارتفاع الحاد لقيمة الدولار في أسواق القطع العالميه، وهو اتجاه يجعل من السلع الأميركيه أغلى سعراً واعلى تكلفة، تتوقع مصادر اقتصادية ان تشهد الصادرات الأميركيه مزيداً من الانحدار.
مخاطر أمنيه
في ضوء التطورات الاقليمية، خصوصاً في سوريا ولبنان، ومع احتدام المعارك العسكريه واشتراك “حزب الله” اللبناني، ومنظمات متشددة مثل “داعش” و “النصرة” وغيرها، وحصول توترات دائمة في منطقة عرسال اللبنانية ومنطقة القلمون السوريه، أصبح ينظر الى لبنان في معظم التقارير الدولية بأنه بلد، يقع في وسط منطقة عالية المخاطر، لاسيما الأمنية منها والسياسية.
ويعمل القطاع المصرفي، الذي يشمل المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين في مناخ أعمال هو بدوره، عالي المخاطر المالية والاقتصادية، خصوصاً لجهة مخاطر السمعة، وهي تتمثل اولاً: بالأموال غير الشرعية الناتجة عن الجريمة المنظمة، او المرتبطة بها، ثانياً: تمويل الإرهاب داخل وخارج نطاق الدولة، مع العلم أن لبنان قد تجاوب مع المستجدات الدولية، وامتثل للاجراءات والمعايير التي فرضت عليه، وتأقلم معها مركزه المالي، وذلك في خضم المناخات القائمة، كما فعلت مراكز مالية عريقة مثل سويسرا ولوكسبورغ والنمسا، لجهة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
وعلى الرغم من ارتفاع موجودات القطاع المصرفي في لبنان الى نحو 176 مليار دولار، بما يعادل ثلاثة أضعاف ونصف حجم الاقتصاد الوطني، البالغ نحو 52 مليار دولار، وكذلك ارتفاع الودائع الى 148 مليار دولار، والأرباح بنسبة 5.7 في المئة، فان القطاع يشهد بعض المؤشرات السلبية نتيجة تأثره بالتطورات الاقليمية، فضلاً عن مرور نحو أكثر من سنة، على شغور منصب الرئاسة، وتعذر انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في 25 ايار (مايو) 2014.
وهكذا يتعرض الوضع الاقتصادي الى ضغوطات سياسية وأمنية، في وقت تواجه الحكومة عجزاً كبيراً لجهة عدم إقرار موازنة عام 2015، التي أضيفت الى موازنات السنوات السابقة منذ عام 2006 والتي بقيت من دون اقرار من السلطة التشريعية، مع عجوزات متراكمة ساهمت في ارتفاع حجم الدين العام الى 69.4 مليار دولار بنهاية آذار (مارس) 2015، ولا يزال القطاع المصرفي يشكل مصدر التمويل الرئيسي للقطاع العام بحصة تزيد عن 49 في المئة، مقابل34 في المئة، حصة البنك المركزي اللبناني، والنسبه الباقيه البالغة نحو 17 في المئة للقطاع غير المصرفي، وخصوصاً الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبما أن ثلاثة مصارف رئيسية تشكل اكبر الدائنين لخزينة الدولة، فقد تحملت تصنيفها بشكل سلبي من وكالات التصنيف الدولية.
وتعتبر وكالة “فيتش” الدولية التي خفضت تصنيف لبنان الائتماني من درجة “المستقرة” إلى “سلبية”، أن فقدان الثقة الناجم عن الأزمة السورية حمّل الاقتصاد اللبناني أعباء كبيرة.
وتعكس النظرة السلبية مخاطر قد تؤدي، بشكل فردي أو جماعي، إلى خفض تصنيف البلاد، وهي: زعزعة الاستقرار اللبناني بشكل كبير، نتيجة التوترات الطائفية أو توسع آفاق الصراع السوري، وانخفاض حاد في قاعدة الودائع الاجمالية، واستمرارية تدهور أداء الدين العام.
وتبني “فيتش” توقعاتها على افتراضات عدة، أهمها أن الأمن في لبنان قد يشهد مزيداً من التدهور في الأشهر المقبلة، ولكن مظاهر العنف لن تتحول الى حرب أهلية واسعة النطاق.
وتبرز في هذا المجال أزمة ملف اللاجئين السوريين، وهي مأساة انسانية تحمل تبعات كبيرة وخطيرة، أمنياً واقتصادياًواجتماعياً ومالياً على لبنان، وذلك نتيجة ضعف إمكانات الخزينة العامة، وارتفاع عدد النازحين.