كثيرة هي أصابع الاتهام التي توجّهت إلى الأسواق المالية العالمية على أنها أحد المسؤولين، هذا إذا لم يكن المسؤول الرئيسي، عن نشوب الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي انطلقت في خريف عام 2008 من الولايات المتحدة الأميركية وامتدت إلى مختلف مناطق العالم، كما لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
والباحثان الاقتصاديان الإيطاليان الشهيران عالميا «ماسيمو اماتو» و«لوكا فانتاكشي»، اللذان يعملان في جامعة بيكوني ــ ميلانو الإيطالية، يقدّمان كتابا مشتركا يشرحان فيه الدور الذي لعبته المجموعات المالية في السياق الذي أنتجته تلك الأزمة.
تتوزع محتويات هذا الكتاب بين أربعة محاور أساسية. يحاول المؤلفان في المحور الأول الإجابة على السؤال التالي: «لماذا لا نستطيع إيجاد السبل الضرورية للخروج من الأزمة؟».
ويدرسان في المحور الثاني الأزمة العالمية وضرورة إصلاح النظام النقدي والمالي الدولي. المحور الثالث مكرّس لـ«الأزمة الأوروبية وضرورة بناء اتحاد أوروبي جديد». والمحور الرابع والأخير يخص العملات المحليّة وأنماط التمويل المحلّي.
تتمثّل إحدى الأفكار الأساسية الأولى التي ينطلق منها المؤلفان ويبنيان عليها تحليلاتهما اللاحقة، في الإقرار أن الأسواق المالية هي أحد أسباب نشوب الأزمة الاقتصادية المالية العالمية، بل ويصف المؤلفان الأزمة أنها أزمة الأسواق المالية بامتياز. لكن رغم ذلك لم تنكفئ وتتراجع بعدها، بل على العكس تابعت نموّها وصعودها وانتشارها.
والإشارة أنه في الوقت الذي شاعت فيه فكرة أن الأسواق المالية ستقوم بعملية إعادة النظر في بنيتها وفي آليات عملها، فإنها لم تقم بأية عملية إصلاح جديّة وتابعت التصرّف على قاعدة أنها لا تخضع لأية رقابة.
بل يذهب المؤلفان إلى تأكيد ما هو أبعد من ذلك، وأن الأسواق المالية لا تزال هي المحرّك الأساسي في صياغة السياسات الاقتصادية على الصعيد العالمي، وصولا إلى تغيير الحكومات والتأثير على الأوضاع الاجتماعية الداخلية في العديد من الحالات وكذلك إعادة صياغة التحالفات الدولية.
والإشارة في هذا الإطار الى أن بعض الباحثين يرون في ذلك السلوك الذي تمارسه الأسواق المالية ميزة ودعوة للانضباط يفرضها نظامها الصارم للرقابة على الحكومات التي تتصرف بطريقة غير مسؤولة.
هذا خاصّة في ظل حالة من اختلال التوازن لدى العديد من الدول، بما في ذلك الكبرى منها. هكذا مثلا يكتب المؤلفان، رغم تخوّفهما من صعود قوّة الأسواق المالية، أن الصين بلاد لا تمتلك التوازن. ذلك أن الفائض التجاري الكبير لديها يزيد من خطورة ضغط التضخّم، كما يشرحان. ل
كن الصورة التي يرسمها المؤلفان للأسواق الدولية هي أنها لا تزال تلعب دورا مركزيا على الصعيد الاقتصادي وتوصيف هذا الدور أنه عامل اعاقة حقيقية للدينامية الاقتصادية، بالمعنى الرأسمالي المنتج. وأنها تخلق علاقة هيمنة من قبل الدائنين على المدينين. هذا في الوقت الذي تؤكد فيه تحليلات هذا الكتاب على ضرورة أن تلعب السلطات السياسية دورها في موازنة العلاقة بين الطرفين.
وبالتالي يصلان بنتيجة التحليل إلى أنه قد حان الوقت الذي ينبغي فيه التفكير بإجراءات أكثر جذرية من أجل إصلاح الأسواق المالية وآليات عملها. وفي منظور انقاذ الأسواق من القوّة الساحقة التي تمارسها سوق واحدة على الأسواق كلّها، اي سوق رأس المال.
لكن رغم هذا التأكيد على الدور الأساسي الذي ينبغي أن تلعبه الأسواق المالية اليوم، فإن الرسالة التي يصوغها المؤلفان بشكل واضح مفادها أنه ينبغي البحث عن مفهوم جدي بديل للممارسات التمويلية. والتأكيد أن الوصول إلى صيغة أخرى للتعامل المالي بحيث يكون في خدمة الاقتصاد أمر ممكن.