من المعروف أن من الصعب الحُكم على التاريخ وهو يتكشّف. لكن بعد عشرة أعوام من الآن، قد ينظر أهل المال إلى الوراء ويستنتجون أن شهر حزيران (يونيو) 2015، بعد نحو ثمانية أعوام من بداية الأزمة المالية، سجّل نقطة تحول بالنسبة للصناعة المصرفية وصورتها في نظر المجتمع.
بعد كثير من الاضطرابات – الناتجة أولاً عن الأزمة، وثانياً عن التنظيمات الجديدة لجعل المصارف أكثر أمناً، وثالثاً من كشف السلطات لانتهاكات على المدى الطويل، الأمر الذي أفضى إلى غرامات وعقوبات بلغت 150 مليار دولار – كثير من المصرفيين فقدوا الأمل تقريباً في بيئة عمل طبيعية. لكن في الأيام الأخيرة استطاع كثيرون أن يرصدوا مجموعة من الرسائل المُشجّعة – ابتداءً من يوم الأحد الماضي مع استقالة أنشو جاين، الرئيس المُشارك في دويتشه بانك.
قام جاين، المتداول النجم الذي ازدهر في الأعوام التي سبقت الأزمة، بتوسيع فرع الخدمات المصرفية الاستثمارية في دويتشه بانك بدرجة كبيرة قبل أن يحصل على ترقية ليُصبح الرئيس التنفيذي. لكن في الصناعة حيث التنظيمات الأكثر صرامة تجعل استراتيجيات الخدمات المصرفية الاستثمارية غير اقتصادية، بدا وكأنها مُفارقة تاريخية، خصوصا نظراً لخلفيته في تداولات الدخل الثابت، حيث وقعت انتهاكات مؤشر ليبور والتلاعب المزعوم في النقد الأجنبي.
جون كريان، الرئيس التنفيذي الجديد للمصرف، انضم إلى مجموعة كبيرة من الرؤساء البارعين الذين تم تجنيدهم لإصلاح المصارف المُحطمة إما بسبب الأزمة أو بسبب كتاب القواعد الجديدة ما بعد الأزمة.
التغيير في المناصب العُليا بدأ يحدث في ستاندرد تشارترد، أيضاً. في الأسبوع الماضي، بيل وينتر، الرجل الثاني السابق في جيه بي مورجان، تولّى منصب الرئيس التنفيذي خلفاً لبيتر ساندز. مثل كريان، هذا يعتبر شخصا من الخارج جاء ليُحدث هزّة في المؤسسة. وقد فشل كل من دويتشه بانك وستاندرد تشارترد في التكيّف مع العالم الجديد من الخدمات المصرفية. ومنذ فترة لا بأس بها حلَّ وقت خفض التكاليف وجمع رأس المال.
لكن تصريحات الأسبوع الماضي من صنّاع السياسة في المملكة المتحدة هي التي عملت بالفعل على إعادة ضبط اللهجة.
لم يكن هناك أمر أكثر دلالة رمزية مما كان لانتكاسات الحظوظ في احتمال إعادة تخصيص رويال بانك أوف سكوتلند. فقد أنقذت الحكومة المصرف في عام 2008 بتكلفة تبلغ 45 مليار جنيه. وكان رويال بانك قد صنع نفسه ليُصبح أكبر مصرف في العالم، بعد عمليات استحواذ هي الأكبر على الإطلاق. وفي غضون أشهر، سجل المصرف أكبر خسارة مؤسسية في المملكة المتحدة على الإطلاق (24 مليار جنيه) وحصل على أكبر عملية إنقاذ لمصرف في العالم.
وكان كشف جورج أوزبورن الرئيس في خطابه في مانشن هاوس الأسبوع الماضي هو أنه سيبدأ في بيع حصة الحكومة البالغة 80 في المائة في رويال بانك أوف سكوتلند في غضون أشهر. وعلى الرغم من أن وزير المالية اعترف بأنه ربما سيتم بيعها بخسارة مقارنة بتكلفة عملية الإنقاذ، وقد تستغرق أعواماً حتى تنتهي، إلا أن البدء بالعملية هو لحظة لها دلالة رمزية.
كان أوزبورن متفائلاً على نطاق أوسع، أيضاً. ويُلاحظ أنه لم يعُد “يهاجم المصارف”، الأمر الذي هو وشركاؤه في التحالف غالباً ما كانوا يفعلونه في البرلمان الأخير. اللهجة كانت تصالُحية. قال ذات مرة، مُشيراً إلى تهديد مصرف إتش إس بي سي بالانسحاب من المملكة المتحدة: “أنا أريد لبريطانيا أن تكون المكان الأفضل للمقار الرئيسة للمصارف الأوروبية والعالمية. إنه في مصلحتنا الوطنية أن تكون كذلك”.
وكانت هناك إشارة أيضاً إلى أن العقوبات ربما تجاوزت حدودها بما فيه الكفاية، حين قال: “إن تصعيد الغرامات الكبيرة” ليس “حلاً على المدى الطويل” – عقوبة طفيفة ربما بالنسبة لمارتن ويتلي، رئيس سلطة السلوك المالي؛ الهيئة المسؤولة عن تنظم الحي المالي في لندن.
كلمات وزير المالية المعسولة ربما عوضت لفترة من الوقت عن بعض الكلمات القاسية التي أطلقها مارك كارني، مُحافظ بنك إنجلترا، الذي تحدث بعده. لكن الأمر واضح تماما. في مجال التنظيم، كما هو الحال في مجال سياسية الاقتصاد الكلي، أوزبورن وكارني هما فعل مزدوج بارع. مُحافظ البنك المركزي الكندي، الذي اختاره وزير المالية البريطاني ليتولى إدارة بنك إنجلترا قبل عامين، قام بتغيير لهجته، أيضاً.
استخدم كارني خطابه في مقر عمدة لندن لكشف النقاط الرئيسة في تقرير “مراجعة الأسواق بعدل وكفاءة”، الذي يهدف إلى إغلاق فجوة كبيرة في مجال التنظيم المالي. ستعمل هذه المراجعة على توسيع قواعد انتهاكات السوق من النوع الذي يتم تطبيقه في الأصل على أسواق الأسهم، إلى مجالات الدخل الثابت والعملات والسلع الأساسية التي ازدهر فيها التلاعب في مؤشر ليبور والنقد الأجنبي.
لكن كثيرا من حزمة الإصلاح هذه سيتم تحقيقها من خلال مدونة تعاونية لقواعد السلوك، تشرف عليها لجنة من المشاركين في السوق، ليست على شكل قوانين ولوائح صارمة.
التحوّل واضح، أيضاً، في لهجة صنّاع السياسة. كارني، مثلا، بدأ يتحدث بلهجة أكثر إيجابية. فقد أخبر جمهوره بقوله: “مع وجود اللبنات الأساسية لبناء الإصلاح، الآن هو الوقت المناسب لتقييم الموارد والإمكانات”.
والكثير مما سبق يصف التطورات في المصارف وبين صنّاع السياسة في المملكة المتحدة. لكن هذا ليس تطوّراً محدود التفكير. مع جميع ضغوطاته وفضائحه، إلا أن الحي المالي في لندن لا يزال قوة دولية في كثير من مجالات الخدمات المصرفية والمالية. تطوّر الأجواء التنظيمية في المملكة المتحدة ربما يصطدم مع غيرة الولايات المتحدة، الجامحة لمتابعة المخالفات الماضية. لكن كارني سيُحاول جاهداً تصدير إصلاحاته. حقبة جديدة من التمويل تبدو في متناول اليد. بمساعدة القواعد التي تعمل على تعزيز النزاهة دون خنق الابتكار، ربما تكون المؤسسات المالية أخيراً في وضع يُمكّنها من إنعاش، ليس فقط سمعتها، لكن أيضاً الاقتصاد العالمي.