IMLebanon

رمضان يعمّق انهيار المقدرة الشرائية للتونسيين

tunisian-market
ألقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بضلال كئيبة على غالبية التونسيين في أول أيام شهر رمضان، بعد أن أنهكتهم سنوات أربع عجاف لم يجنوا منها سوى مزيد من الفقر والبطالة وتراجع حاد للمقدرة الشرائية، في وقت اشتعلت فيه نار أسعار المواد الغذائية والخضراوات واللحوم والفواكه، نتيجة استفادة شبكات الاحتكار والمضاربة التي استغلت كثيرا غياب المراقبة لتحكم قبضتها على الأسواق وتتحكم في قوت الصائمين.

على الرغم من الإجراءات الاقتصادية التي تقول السلطات أنها اتخدتها ضد أي شكل من أشكال الاستغلال والضغط على الأسعار، فإن الصائمين يتذمرون من عجزهم حتى على اقتناء حاجياتهم الأساسية في شهر يفترض ألا تثري فيه شبكات تشدد قبضتها على قنوات توزيع مختلف المواد، على حساب المستهلكين.

و”هجرت” أكثرية التونسيين، خلال اليومين الأولين من شهر رمضان، المساحات التجارية الكبرى التي تستوجب مقدرة شرائية مرتفعة قادرة على مواجهة اشتعال الأسعار، وبدت تلك المساحات شبه خالية من الزبائن الذين اضطروا للتسوق من الدكاكين، مكتفين باقتناء ما يلزم لمائدة إفطار يومية.

على خلاف عدد من المجتمعات العربية يحظى شهر رمضان بأهمية استثنائية، وإضافة إلى الأهمية الدينية والروحية، فهو يعكس ظاهرة استهلاكية بامتياز حيث يتضاعف الاستهلاك بنسبة مئة بالمئة، حسب دراسة أعدتها منظمة الدفاع عن المستهلك العام 2015.

قبل انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 كانت العائلات التونسية تقتني ما يلزمها من المواد الغذائية خلال كامل شهر رمضان، لكن تدهور قدرتها الشرائية اضطرها خلال هدا العام إلى التسوق يوميا والاكتفاء بما هو ضروري لمائدة إفطار واحدة.

وتعكس حدة الفوارق الاجتماعية أن رمضان فقراء تونس ليس رمضان أثريائها، يكتفي الفقراء بـ”قوت إفطارهم اليومي” ويضطرون إلى التداين في العشر الأواخر بعد أن يستنزف التجار جيوبهم، أما أثرياؤها فإنهم يستمتعون بموائد إفطار تؤثثها أصناف من المأكولات وعادة ما يفضلون الإفطار في المطامع الفاخرة.

وتكفي جولة في الأسواق ليلاحظ زائرها أن اللوحات المخصصة لتحديد الأسعار قد نزعت من على البضائع حتى إدا اقترب المواطن أملى عليه التاجر أسعارا مشطة لا تتناسب لا مع جودة السلع ولامع جيوب الصائمين.

وتشمل المضاربة في الأسعار مواد يعتبرها التونسيون ضرورية خلال رمضان مثل اللحوم والبيض والخضراوات والفواكه.

فقد ارتفع سعر الكيلو الواحد من لحم الضأن إلى 25 دينارا أي حوالي 20 دولارا وهو ما يعادل أجرة يوم عمل للعمال وصغار الموظفين.

ويقول الباعة إن ندرة المواد الاستهلاكية هي التي تقف وراء غلاء الأسعار وأنهم مجرد وسطاء بين المنتجين والمستهلكين غير أن التونسيين يعرفون جيدا أن شهر رمضان لا يتعامل معه التجار كشهر عبادة بقدر ما هو فرصة للثراء على حساب شهوة الصائمين.

وإزاء هكذا وضع يضطر الفقراء إلى الاكتفاء باقتناء ما هو ضروري لإعداد إفطار غير متوازن تغيب على مائدته اللحوم والفواكه.

وفي كثيرا من الحالات يطوي المواطنون مسافات للتنقل إلى أسواق بعيدة بحثا عن أسعار تتلاءم مع مقدرتهم الشرائية غير أن آمالهم تتبخر حين يكتشفون أن ارتفاع الأسعار هي ظاهرة عامة.

وعمقت عمليات المضاربة في الأسعار هوة سحيقة بين قلة قليلة من الميسرون وشرائح واسعة من الفقراء يعيشون على شظف العيش الأمر الذي زاد من الشعور بالحرمان.

وعصفت ضلال الأزمة التي تعيشها البلاد بتماسك المجتمع وتضامنه بعد أن تعمقت الفوارق الاجتماعية بشكل حاد حيث ارتفعت نسبة الثراء الفاحش بـ18 في المئة فيما ارتفعت نسبة الفقر المدقع بنسبة 30 بالمئة الأمر الذي نخر التوازن الاجتماعي ليقود إلى تضاريس اجتماعية جديدة تشكلت على أنقاض مفهوم “مجتمع الطبقة الوسطى”.

ويرى غالبية التونسيين أن الهوة بين الفقراء والأغنياء “مشكلة كبرى” تهدد استقرار البلاد و”تؤجج حقدا اجتماعيا” يعد أرضية خصبة للاضطرابات والانتفاضات والاحتجاجات.

وبدت تونس خلال السنوات الأربع الماضية ساحة مفتوحة على مشهد اقتصادي شرس ومتوحش في حل من أي التزام باحترام القوانين بل في حل من أية أخلاق كثيرا ما تؤطر مسالك الثراء وتضفي عليها المشروعية الأدبية والاجتماعية وتمثل حصنا منيعا ضد كسب المال الفاسد في مجتمع عربي مسلم.

ويقول الخبراء في التنمية الاجتماعية إن النسبة العامة للأثرياء التونسيين ارتفعت خلال السنوات الأربع الماضية إلى حوالي 20 بالمئة وتستأثر على حوالي 80 بالمئة من ثروات البلاد في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية إلى 70 بالمئة، الأمر الذي يعد مؤشرا قويا على أن التونسيين لم يجنوا من سنوات الثورة سوى حالة عميقة من الفوارق الاجتماعية، في وقت كانوا ينتظرون فيه أن تقود ثورتهم إلى مجتمع أكثر توازنا بين فئاته من خلال تقاسم عادل لعائدات الخيرات.

ومع بروز “طبقة الأثرياء الجدد” اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة ما يعرف في علم الاجتماع بـ”أنماط الاستهلاك التظاهري” لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 في المئة من التونسيين المنتمين للطبقة الوسطى وللطبقة الفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى “ثلاث جزر” كل جزيرة تمثل “مجتمعا قائما بذاته، “جزيرة الأغنياء” التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، “جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة و”جزيرة الفقراء” الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.

خلال أربع سنوات فقط زج الثراء الفاحش بالأثرياء الجدد في أنماط استهلاكية استفزازية بعد أن انسلخوا من “بيئتهم الاجتماعية” إذ ينحدر 75 بالمئة منهم من فئات اجتماعية متواضعة، نزحوا من أحيائهم السكنية الشعبية ومن الجهات الداخلية ليلتحقوا بأحياء من سبقوهم في الثراء مثل حي النصر وأحياء المنازه الواقعة شمال تونس العاصمة بل زاحموا حتى العائلات الأرستقراطية التي ورثت الثراء جيلا بعد جيل خاصة في أحياء قرطاج على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط ليسكنوا في فلل فاخرة يتجاوز سعر الفيلا الواحدة 3 ملايين دينار (حوالي 2 فاصل 5 مليون دولار) فيما يقطن 30 بالمئة من فقراء تونس في “بيوت” طينية وقصديرية هي أقرب إلى الأكواخ منها إلى المساكن.

وعلى الرغم من أن مستواهم التعليمي متدن وكثير منهم أمي، فإن الأثرياء الجدد يمثلون حالة استثنائية بالنسبة لأنماط الاستهلاك لدى غالبية التونسيين. فقد أظهرت دراسة أعدها المعهد التونسي للإحصاء أن أغلب الأسر عاجزة عن تحقيق التوازن بخصوص النفقات حيث أن 92 في المئة من إجمالي نفقات الأسرة متوسطة الحال تذهب للتغذية، فيما لا تقدر الأسرة سوى على إنفاق 8 بالمئة للصحة و8 بالمئة للباس، أما الترفيه فإنه لا يستأثر سوى بـ7 بالمئة من مجموع النفقات.

أما بالنسبة للأثرياء فإن الأنماط الاستهلاكية مختلفة تماما إذ تساعدها وفرة المال على “نوع من الإنفاق المتوازن المريح” حيث تنفق الأسرة الواحدة 27 بالمئة من مجموع نفقاتها على التغذية و17 بالمئة على الصحة و26 بالمئة على الألبسة و21 بالمئة على الترفيه.

وتؤكد دراسة معهد الإحصاء أن الفوارق الاجتماعية تستبطن فوارق خطيرة لا تتعلق فقط بمستوى العيش، وإنما تتعلق أيضا بنوعية العيش إذ في الوقت الذي يتجاوز فيه مجموع نفقات الأسرة الثرية الواحدة 15 ألف دينار(حوالي 10 آلاف دولار) شهريا لا يتجاوز مجموع نفقات الأسرة المتوسطة الواحدة 1500 دينار (حوالي 1000 دولار) شهريا فيما تعيش الأسرة الفقيرة على 150 دينارا (حوالي 100 دولار) شهريا.