IMLebanon

الاستثمار المسؤول .. صندوق «الرذائل» مقابل الصناديق الحميدة

InvestRisk

جون أوثرز

حركة سحب الاستثمار من الوقود الأحفوري لديها بعض الأصدقاء الأقوياء. في الشهر الماضي، أعلن صندوق الثروة السيادية النرويجي، الأكبر في العالم، أنه سيبيع جميع أسهمه في شركات الفحم، ليحذو حذو عديد من أوقاف الجامعات، مثل وقف جامعة ستانفورد.

أصحاب هذه الأصول الكبيرة لديهم نفوذ ضخم على صناعة إدارة الصناديق، وهذا الشهر انضم إليهم أيضاً البابا فرانسيس، الذي يومئ منشوره عن تغير المناخ إلى قوة المقاطعة الاجتماعية.

لكن الحملة ضد الوقود الأحفوري ليست سوى المظهر الأكثر وضوحاً للأهمية المتزايدة للاستثمار المسؤول أو الاجتماعي. هناك مجموعة واسعة من مختلف مناهج الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة، لكن على الصعيد العالمي، أكثر من 30 في المائة من الأصول المُدارة مؤسسياً لديها نوع من التفويض المجتمعي، وهي تمثّل أصولا بقيمة 21.4 تريليون دولار. في أوروبا، 58.8 في المائة من الأصول المُستثمرة يتم إدارتها وفقاً لتفويض أخلاقي.

في العامين الماضيين، ووفقاً للتحالف العالمي للاستثمار المُستدام، الذي بدأ يتعقب هذه القضايا في عام 2012، نمت هذه الأصول بنسبة 61 في المائة. في تلك الفترة، ارتفعت السوق العالمية للاستثمار المُستدام من 13.3 تريليون دولار في بداية عام 2012 إلى 21.4 تريليون دولار في بداية عام 2014، ومن 21.5 في المائة إلى 30.2 في المائة من الأصول المُدارة على أيدي مختصين في العالم المُتقدّم.

المفارقة هي أن كثيرا من صناعة الاستثمار يتجاوز سحب الاستثمار باعتباره استراتيجية، لأنه ثبت على مر الزمن أنه غير ناجح. بدلاً من بيع الأسهم، يفضل المساهمون الأخلاقيون الآن المشاركة الفعّالة مع الشركة. فيونا رينولدز، العضو المُنتدب في مجموعة “مبادئ الاستثمار المسؤول”، وهي مجموعة مدعومة من الأمم المتحدة تضم 1380 مستثمرا يديرون 59 تريليون دولار، تقول: “الأغلبية العظمى من أعضائنا يقولون إنهم مالكون نشطون للأسهم، وسحب الاستثمارات هو آخر شيء يريدون المشاركة فيه. بالنسبة لمعظمهم، سحب الاستثمارات ما هو إلا الملاذ الأخير”.

ويقول جون ستريور، الرئيس التنفيذي لشركة كالفيرت، التي كانت واحدة من روّاد الاستثمار الأخلاقي في الثمانينيات: “نحن نبتعد عن الاختيار السلبي باتجاه استثمار التأثير الإيجابي. وهذا بسبب التطورات في التكنولوجيا. في مرحلة ما، كل ما كان متاحاً لنا كان بعض الاختيارات السلبية. الآن يُمكننا النظر بعمق في السلوكيات غير المالية للشركات على مستوى العالم، ويُمكننا استخدام مصادر بيانات مُتعددة”.

في وقت سابق من هذا العام، أظهر بحث لكلية لندن للأعمال أن أسهم شركات التبغ – التي ظلت تخضع لحملات سحب الاستثمارات على مدى العقود الثلاثة الماضية – تفوّقت على جميع القطاعات الأخرى على المدى الطويل جداً، الذي يعود إلى بداية القرن العشرين. وأسهم شركات الكحول – التي تعتبر أيضاً هدفاً للاستثمار الأخلاقي – تصدّرت بالمثل جميع الأسهم الأخرى في المملكة المتحدة.

في الولايات المتحدة، صندوق باريار – الذي كان يُعرف باسم صندوق فايس (الرذيلة) لأنه لا يستثمر سوى في شركات الكحول، والتبغ، وأسهم المُضاربة وشركات تصنيع الأسلحة – تفوّق بسهولة على الصناديق الأخلاقية على مر الزمن.

إبراز الإيجابيات

هذا كان من السهل تفسيره. بيع أسهم “الخطيئة” نجح في جعلها أرخص بالنسبة لآخرين لا يكترثون كثيرا بالوازع الخلاقي، ما يمكنهم فيما بعد من تحقيق عائد أكبر. على حد تعبير درو فاوست، رئيسة جامعة هارفارد، التي تقاوم ضغطا داخل الحرم الجامعي لسحب استثمارات أوقاف الجامعة، الأكبر من نوعها في العالم، من الوقود الأحفوري: “إذا بعنا نحن والآخرون أسهمنا، دون شك تلك الأسهم ستعثر على غيرنا من المشترين الراغبين. ومثل هذه الاستراتيجية من شأنها تقليص النفوذ، أو الرأي الذي قد يكون لدينا مع هذه الصناعة”.

جانب من “قمة القيمة طويلة الأجل” التي التأمت في نيويورك لمناقشة سبل الاستثمار على المدى الطويل.

عندما نجحت فكرة السحب، كان سحب الاستثمارات في الأساس جزءا من حملة سياسية، كما في مقاطعة جنوب إفريقيا في الثمانينيات بسبب الفصل العنصري. وأنصار سحب الاستثمارات من الوقود الأحفوري سيعترفون الآن بسعادة أن التكتيك من المُفترض أن يُساعد في “نزع شرعية” صناعة الوقود الأحفوري وإضعاف سلطتها السياسية أكثر مما يُفترض أن يدفع الصناعة في اتجاه مختلف.

لكن إذا أصبح من غير المعتقد أن ينجح سحب الاستثمارات باعتباره تكتيكا استثماريا، هناك الآن دليل أكثر بكثير على أن الاختيار الإيجابي – الاستثمار عمداً في الشركات ذات السلوك الجيد، أو التحرّك لتحسين سلوك المُسيئين – يمكن أن يُحقق النتائج. جميع مجموعات المؤشرات الرئيسة توفر مؤشرات “خالية من الكربون”.

مؤشر مورجان ستانلي المُركّب، واحد من أكبر واضعي المؤشرات، يوظّف أكثر من 200 شخص فقط لقياس العوامل غير المالية، مثل محاولة توحيد تدابير انبعاثات الكربون، بينما في الولايات المتحدة، مجلس الاستدامة لمعايير المحاسبة، الذي هو الآن برئاسة عمدة نيويورك السابق، مايكل بلومبيرج، يعمل أيضاً لإنتاج معايير مُتفق عليها. مع مثل هذه المعايير، تُصبح محاولة الاستثمار المسؤول أسهل وأرخص بكثير بالنسبة لمديري الاستثمار.

الآن، مع مزيد من البيانات المتوافرة، يعكف الأكاديميون على وضع تدابير لإظهار أن السلوك الجيد يُكافأ من قِبل الأسواق. وقارنت كلية هارفارد للأعمال مجموعة مؤلفة من 90 شركة أمريكية اعتمدت مجموعة من سياسات الاستدامة في عام 1993 بـ 90 شركة أخرى تجنبت مثل هذه السياسات. ووجدت أنه على مدى الأعوام الـ 16 التالية، الشركات عالية الاستدامة تفوّقت على الأخرى في البورصة بواقع 4.8 نقطة مئوية سنوياً – وهذا فرق كبير. كما كان أداء الشركات عالية الاستدامة أيضاً أفضل بشكل ملحوظ بحسب مقاييس مثل العائد على الأصول.

في الوقت نفسه، تعمل مصارف الاستثمار على ترويج “الاستثمار الموضوعي” – فقط شراء الأسهم من قائمة تم تجميعها للاستفادة من الموضوعات البيئية والاجتماعية المهمة.

ويوفر مصرف أمريكا ميريل لينش مجموعة من الأسهم تهدف إلى الاستفادة من مجموعة من التحسينات الاجتماعية. وعلى مدى الشهور الـ 18 الأولى (فترة قصيرة جداً من حيث استخلاص استنتجات نهائية)، يقول المصرف إن جميع الشركات التي تستبعد واحدا من الموضوعات، بما في ذلك الأسهم لمكافحة السُمنة والتعامل مع الأمن الغذائي وكفاءة استخدام الطاقة فضلاً عن تغيّر المناخ، قد تغلّبت على مؤشرها، مؤشر مورجان ستانلي المُركّب لعموم العالم.

الرأسمالية الائتمانية

الاهتمام بالاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة يعمل أيضاً على تغذية الآمال بأن النطاق الواسع لعديد من أصحاب الأصول الكبرى يمكن أن يسمح لهم بالتركيز على مسؤولياتهم طويلة الأجل. وبما أن هذه الصناديق مسؤولة عن تأمين تقاعد أعضائها، فإن النظرية هي أنها يُمكن أن تصبح “مالكين عالميين”، ومعاملتها كجزء من اختصاصها لدفع الشركات نحو تحقيق نتائج اجتماعية أكثر صحة لأعضائها.

جون روجرز، الرئيس السابق لمعهد تشارترد للتحليل المالي، أكبر هيئة مهنية للمستثمرين، يُطلق على هذا اسم “الرأسمالية الائتمانية” التي يُمكن أن تحل محل “الرأسمالية المالية” التي هلكت في الأزمة المالية العالمية عام 2008. ويقول: “إذا عدنا إلى الوراء 30 أو 40 عاماً من الآن، يمكننا أن نرى أننا عشنا خلال حقبة كان رأس المال فيها يتم تخصيصه من قِبل المستثمرين الذين كانوا يتطلّعون للاستثمار على المدى الطويل، وتقليص العوامل الخارجية السلبية وتعظيم الإيجابية منها. هذا سيكون أمراً رائعاً. إنه أمر نتطلع إليه”.

المحاولة لبناء وظيفة إشرافية كهذه دفعت عديدا من أصحاب الأصول الكبيرة ليجتمعوا معاً في “قمة القيمة طويلة الأجل”، التي التأمت في نيويورك في آذار (مارس) من هذا العام لمناقشة المُلكية النشطة الأقوى على المدى الطويل.

مع ذلك، مع شعبية الاستثمار السلبي – الذي يُقلل من الرسوم – هناك مصدر قلق أن الوظيفة الإشرافية الأقل فاعلية ستؤدي إلى نشاط أقل، وليس أكثر. صقر نُسيبة، الرئيس التنفيذي لشركة هيرميس في المملكة المتحدة، يقول إن المشكلة مع نمو المؤشرات هي أن “الأمر ينتهي بك مع عالم من الشركات التي لا تملك على الإطلاق أي هيكلة مُلكية لها. ويُصبح المسؤولون التنفيذيون أقوياء جداً ويهتمون بمصالحهم الشخصية بدلاً من مصالح المساهمين غير الفعّالين”.

ويضيف أن المديرين غير الفعّالين سيكون عليهم التطوّر ليُصبحوا “مُضيفين” أكثر فعالية للشركات التي يملكونها، وأن هذا سيؤثر في رسومها المُنخفضة. “الأغلبية العُظمى من الخدمة التي سيُضطر مديرو الأصول إلى توفيرها ستكون الوظيفة الإشرافية والشركات الكبرى سيكون عليها أن تتطوّر لتُصبح شركات ذات وظائف إشرافية. ذلك هو المستقبل، وهذا يعني أن صناديق المؤشرات تُصبح أكثر تكلفة”.

مصنّفو المؤشرات يعترضون بشدة على هذا. في قمة القيمة طويلة الأجل، لاري فينك، رئيس شركة بلاك روك، أكبر شركة لتصنيف المؤشرات في العالم، لاحظ أن المساهمين غير الفعّالين لديهم الحافز الأقوى للمُشاركة مع الشركات. وقال: “في حساباتنا الموجّهة نحو المؤشر، لا يُمكننا بيع تلك الأسهم حتى لو كانت الشركات سيئة. باعتبارنا شركة تصنيف، عملنا الوحيد هو رأينا ولذلك نحن نتخذ حوارا أكثر فعالية مع شركاتنا ونفرض مزيدا مما نعتقد أنه صحيح”.

بلاك روك أيضاً تعترض على فكرة أن الإشراف الفعّال سوف يُجبرها على رفع الرسوم. فهي توظيف بالفعل 20 شخصا للتعامل مع قضايا الإشراف. ويقول ريتش كوشيل، الذي يترأس عمليات الحوكمة في بلاك روك: “إنها بصراحة واحدة من ميّزات كونك تعمل على نطاق واسع. القيام بالتحليل لاقتراح عشرة أسهم في إحدى الشركات أو مليون سهم لا يزال يحتاج إلى القدر نفسه من التحليل”.

وتلقّت مثل جهود الحوكمة هذه دفعة قوية من المساهمين الناشطين، الذين يأخذون حصصا كبيرة في الشركات ومن ثم يحاولون إقناع الشركات للقيام بخطوات، مثل إعادة شراء الأسهم أو دفع أرباح الأسهم لمرة واحدة التي من شأنها تعزيز سعر السهم على المدى القصير. ويقول روجرز إن المساهمين المشهورين الذين يستخدمون هذه التكتيكات، مثل بيل أكامان، من بيرشينج سكوير، أو ديفيد إينهورن، من جرينلايت كابيتال “أظهروا للمؤسسات ما هو مُمكن”.

تكتيكات النشطاء

قواعد اللعبة للنشطاء تُستخدم بالفعل من قِبل حركات سحب الاستثمارات من الوقود الأحفوري. في وقت سابق من هذا العام، عمل مستثمرون من أجل إصدار قرار في الاجتماع السنوي لشركة شيفرون يدعو إلى توزيع أرباح أسهم استثنائية.

وكان الهدف من القرار الذي حصل على نحو 4 في المائة من الأصوات، إجبار الشركة على دفع النقود التي يمكن أن تستخدمها خلافاً لذلك في استخراج مزيد من الوقود الأحفوري. وحتى قبل منشور البابا، كانت المجموعات الكاثوليكية الأمريكية، مثل أخوات كنيسة الروم الكاثوليك للقديس دومينيك، نشطة في مُضايقة شركات النفط الكُبرى في الولايات المتحدة مع قرارات للتصدّي لتغير المناخ.

ومهما كان نجاح حملة سحب الاستثمارات من الوقود الأحفوري، إلا أن المسؤولين التنفيذيين في وول ستريت يبدون مُقتنعين أن الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة لن تنتهي. وهناك الآن ضغط من أجلها من الأطراف كافة، بقيادة أصحاب الأصول الكبيرة الذين يوظفون مديري صناديق أخرى للعمل لديهم.

يقول رينولدز: “إن المديرين السائدين لا يأتون هنا من تلقاء أنفسهم، بل يأتون بسبب الضغط من أصحاب الأصول الكبرى. سيقوم مديرو الأصول بما هم متعاقدون للقيام به، إذا كانت التفويضات كبيرة بما فيه الكفاية”.

كما سيمارس المستهلكون أيضاً الضغط. وفقاً لباري ماكينيرني، الرئيس التنفيذي المُشارك في شركة بي إم أو لإدارة الأصول العالمية “الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة ستنطلق بالفعل لأن جيل الألفية والنساء يطالبون بها. إنهم يملكون جاذبية خاصة لمثل هذه الاستراتيجيات. وتوفيرها يمنح العائد نفسه، لذلك قد يفضلون وضع أموالهم في صناديق الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة”.

وربما من المُستغرب أكثر، أن مديري الثروات يذكرون أنه حتى الأفراد الذين يملكون 100 مليون دولار أو أكثر للاستثمار يرغبون الآن في صناديق “التأثير” أو الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة. جون تافت، الرئيس التنفيذي لإدارة الثروة في آر بي سي، يقول: “لطالما كانت خيرية. لكنها كانت مُصاغة بطريقة (وارن) بافيت على غرار المدرسة القديمة – حيث قال اصنعها ومن ثم يحسن بك أن تتخلى عنها، لأنه لم يعتقد أنه يمكنك حل المعادلة بمتغيرين في الوقت نفسه. إنه أمر جديد أن الأشخاص يريدون أن يكونوا خيّريين من خلال محافظهم”.

لماذا؟ تافت، الذي يُجادل كتابه “قوة للخير” بأن رأسمالية المُساهمين يمكن أن تدفع التحسينات في المجتمع، ويُشير إلى أن المخاوف المتنامية جلبت أخيراً نقطة تحوّل. أولئك الذين كانوا متشككين، يعتقدون الآن أن الاستثمارات البيئية والاجتماعية والحوكمة يمكن أن تنجح. “هناك شعور أن العالم يحتاج إلى المساعدة على عدة جبهات. الأشخاص بدأوا يتنبّهون للإشراف من أجل منع أي عدد من حالات الفوضى بطيئة الحركة أمامنا”.