بعد عام تقريباً على إصدار مصرف سوريا المركزي الأوراق النقدية الجديدة من فئة الـ500 ليرة، ستتوافر في الصرافات الآلية ابتداء من اليوم الأربعاء أوراق نقدية جديدة من فئة الـ 1000 ليرة، طُبعت في روسيا وطرحتها حكومة النظام أمس الثلاثاء. وتحت شعار “حضارة وانفتاح وتطور” برر أديب ميالة حاكم مصرف سوريا المركزي هذه الخطوة بالقول ان “إصدار الأوراق المالية الجديدة بدأ في عام 2010 بطرح نقود من فئة 50 و100 و200 و500 ليرة، ويأتي في سياق التحسين المستمر لميزات الأوراق النقدية المطروحة في التداول من حيث المقاييس والرسومات، سعيا لتغيير كامل العملة”، علماً بأنّ صورة حافظ الأسد اختفت عن ورقة الـ1000 ليرة الجديدة، واستبدلت بصور لمعالم أثرية سورية.
ولا ندري ما هي أهمية تحسين المزايا الفنية والتقنية لأوراق العملة، في الوقت الذي يستمر فيه انهيار قيمتها، فالمركزي برغم تدخلاته المزعومة، عجز عن تحسين سعر صرف الليرة التي ما زالت تقارب حاجز الـ300 ليرة للدولار الواحد، وبلغ سعر صرفها أمس 297 ليرة للشراء و299 ليرة للمبيع، بعد أن كان سعر صرفها لا يتجاوز الـ 50 ليرة للدولار عام 2011. ولم يتخذ “المركزي السوري” أياً من الإجراءات التي تسهم في تحسن قيمة الليرة، ولعل في مقدمتها رفع أسعار الفائدة وتشجيع الادخار بالليرة السورية لتقليل معدلات التضخم، وتمويل الاستثمارات لزيادة حجم الإنتاج بما يزيد من الكتلة السلعية المطروحة في الأسواق، ووقف عمليات المضاربة التي تتم عبر السوق السوداء، وتسهم في انخفاض قيمة الليرة.
ورأى ميالة بأن طباعة العملة الجديدة لن يكون لها تأثير على معدلات التضخم لأنّها “ستحل مكان أموال قديمة مهترئة”، كاشفاً عن “سحب 70 مليار ليرة (235.6 مليون دولار) هي أموال مهترئة، وطباعة 10 مليارات (33.6 مليون دولار) من العملة الجديدة”. وبعيداً من هذه الأرقام المعلنة، لكن غير المؤكدة، فإن هذه الحجة لا تبدو مقنعة، ولنا في تجربة إصدار الـ 500 ليرة خير مثال، فبرغم تأكيد المركزي وقتها أنها أيضا عملية استبدال لعملة تالفة، ولن تؤثر على معدلات التضخم، إلا أن الأمر لا يعدو كونه طباعة عملة غير مغطاة ولا تحمل أي قيمة إلا في كلفة طباعتها، وكان من نتيجتها استمرار تدهور الليرة وانخفاض قيمتها بشكل مضطرد حيث فقدت حتى الآن 78% من قيمتها في سوق الصرف الرسمية، و83% في سوق الصرف السوداء، وذلك على وقع تقلص الاقتصاد السوري بأكثر من 50% منذ بدء الأزمة عام 2011، وفقاً للدراسة الصادرة عن معهد “تشاتهام هاوس” البريطاني في 22 حزيران الفائت. كما أن ارتفاع معدلات التضخم بات أمراً يصعب إنكاره حتى على مؤيدي النظام. فبحسب رئيس مجلس الأعمال السوري الأرميني ليون زكي في تصريحه لجريدة الوطن الموالية للنظام، فإن “حاجة الأسرة متوسطة الأفراد والدخل لا تقل عن 140 ألف ليرة (471.3 دولارا) شهرياً، ومعظم هذه الأسر لا تؤمن أكثر من خمس هذا المبلغ بأفضل الأحوال”. وبما أن “المركزي” لم يحقق وعوده السابقة بحماية الليرة وتحسين قدرتها الشرائية، فإن لا شيء الآن يدعو السوريين للاقتناع بأن إصدار الـ1000 ليرة الجديدة لن يترتب عليه ارتفاعات جديدة في معدّلات التضخم.
من جهة أخرى فإن الكلام عن استبدال الأموال القديمة المهترئة قد ينطوي على نوايا خفية، فربما يكون المقصود بـ”الأموال المهترئة”، تلك الفئات النقدية التي ما زالت بحوزة السكان في المناطق المحاصرة والتي خرجت عن سيطرة النظام، وقد يكون الهدف من وراء استبدال فئات العملة القديمة بفئات أخرى جديدة، هو إخراج تلك الأموال من التداول، مما سيكون له آثار وخيمة على عمليات التجارة والتبادل في تلك المناطق، وعلى معيشة السكان المحاصرين الذين ستصبح أوراقهم النقدية من دون أي قيمة مستقبلاً. يضاف إلى ذلك أن مكاسب عديدة ستحققها حكومة النظام من وراء إصدار الـ 1000 ليرة الجديدة. فبحسب الباحث الاقتصادي مازن علي فـ”إن قيمة التحويلات المالية من المغتربين إلى الداخل السوري تبلغ 8 مليون دولار يومياً، وشركات الصرافة العاملة بإشراف المركزي تسلم هذه الحوالات بالليرة السورية وليس بالقطع الأجنبي، وقسم كبير من الـ 1000 ليرة الجديدة سيتم توزيعها للتداول عبر صرفها بالحوالات، كما جرى عند صدور فئة الـ 500، مما يعني سطواً علنياً على مدخرات السوريين”. وأضاف علي لـ “المدن”، أنه بهذه الخطوة يُمنح السوريون “أوراق نقدية سورية غير مغطاة بدل منحهم عملة صعبة تمثل قيمة حوالتهم الحقيقية”. كما أن حكومة النظام وبعد إهدارها للاحتياطي النقدي وثروات البلاد الاقتصادية لتمويل حربها العبثية، لا تجد مخرجاً من اعتماد وسائل التمويل بالعجز، لتأمين سيولة تغطي نفقاتها المتصاعدة بعد خسارة أهم موارد إيراداتها لا سيما من قطاعي النفط والسياحة، وهذا ما أكده الباحث الاقتصادي رفعت عامر لـ “المدن”، إذ ان “إصدار الـ1000 ليرة الجديدة هو بالتأكيد تمويل بالعجز، لا سيما أن عجز الموازنة بات يتجاوز 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا ما سيلحق الأذى بالمداخيل الحقيقية للسوريين، لأن التمويل بالعجز سيدفع نحو مزيد من التدهور في قيمة الليرة السورية”.