إجا التلج… وراح التلج، كأنّه «عشرين مرّة إجا وراح التلج» في حسابات أهالي العسكريين المخطوفين الذين اقتربوا مِن طيِّ العام الأوّل على اختطاف أبنائهم. فلا عزيمتُهم بَردت ولا أساريرُهم انفرجَت. فقرّروا معاودةَ التصعيد عسى صرختُهم تسَرِّع عجَلة المفاوضات، ويَفطرون برؤيةِ وجوهِ أبنائهم بعد طولِ صيام.
«يا عمّي الدني رمضان، خافوا ألله! خافوا رَبّكُن! إنتو ما بتصوموا؟». صرخةٌ كادت تهزّ جدرانَ السراي الحكومية، أطلقَتها والدة الجندي المخطوف محمد يوسف قرابة التاسعة صباحاً، وهي تستعدّ لتركِ خيمتِها في رياض الصلح.
تصعيد على مراحل
بغصَّةٍ، بحرقةٍ، بلَوعة، تركَ أهالي العسكريين المخطوفين خيامَهم، واستعدّوا لقطعِ مداخل العاصمة بيروت تزامُناً مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء صباح أمس. «لم تعرف جفونُنا طعمَ النوم، نحن وأولادُنا مشرّدون».
تتحدّث ريما جعجع لـ«الجمهورية»، وأفكارُها مشتّتة بين مصير زوجها ومستقبل أبنائها الثلاثة، مشيرةً إلى يومياتها: «نقلتُ المنزل إلى الخيمة، والظروفُ أجبَرتني على أن أدَرِّس أولادي على فرشةٍ في الخيمة، خصوصاً أنّ ابنَنا البِكر خاضَ الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة، والحمدلله نجَح بدرجة جيّد». على رغم فرحةِ النجاح، تؤكّد ريما: «في القلب حرقة، غياب الزوج والأب يثقِل ظهرَ الأم، ويضاعِف التحدّيات».
لم تكَد تدقّ الساعة العاشرة حتى تحوَّلت مداخل العاصمة موقفاً للعموم، وأصوات «زمامير» سيارات المواطنين عانقَت زرقةَ السماء. إقتصرَت المرحلة الأولى من تصعيد الأهالي على وضعِ سياراتهم في عرض الطريق، «ممنوع النملِة تِمرُق»، تَصرخُ وضحة، زوجة الجندي المخطوف خالد مقبل الحسن، مؤكّدةً لـ«الجمهورية»: «ما عاد بوسعِنا الانتظار، ولا حتى الصَبر، نكاد ندخُل العامَ الأوّل على خطف العسكريين، ولا نسمع إلّا كلمات… لو الوساطة جدّية، آن لها الأوان أن تنضجَ».
«الله يرضى عَ شيخ سامي»
لهيبُ الشمس ظهراً، دفعَ بأكثرية الأهالي وأولادهم للتفيُّؤ بالشجرة المعمّرة قبالة بيت الكتائب، وافتراش الرصيف. لم يبقَ المشهد على حالِه، إذ سرعان ما خرجَ شبّان كتائبيّون يوَزّعون مياه الشرب على الأهالي، ما استدعى جملةً مِن التعليقات ورسمَ علاماتِ الامتنان على محيّاهم: «ألله يبَورِد قلب الشيخ أمين ويرضى ع شيخ سامي»، «الله يرحَم الشيخ بيار».
وسط تبادُلِ أطراف الكلام بين الأهالي والصحافيين الذين توافدوا من مختلف الوسائل الإعلامية المحلّية والأجنبية. كالبحرِ الهائج عَلت صرخة مجموعة من الشبّان الذين أضرَموا النار في الإطارات على غفلةٍ قربَ الاعتصام، فسُرعانَ ما ارتفعَت ألسِنةُ النيران ومعها أدعيةُ الأمّهات الغاضبات.
عاد الأهالي وتمالكوا أعصابَهم تدريجاً مع انحصار حدّةِ النيران وذوبانِ الإطارات، وظلّت مداخل العاصمة مقفَلة حتى الثانية بعد الظهر، بعدما تلا خليل شديد بياناً باسمِ الأهالي، أبرزُ ما جاء فيه: «نبذلُ كلَّ ما في وسعنا لدفعِ عجَلة التفاوض قدُماً، ولكن أيّ تقصيرٍ نراه في هذا الملف سيكون إهمالاً من الدولة اللبنانية. آن الأوانُ ليكونَ هذا الملف أولوية مطلقة دون سائر الملفّات المطروحة أمام الحكومة، لأنّ أرواح أبنائنا العسكريين أغلى مِن كلّ الكراسي والمناصب والمصالح الضَيّقة».
في سياق متّصِل، أكّد رئيس لجنة أهالي العسكريين المخطوفين حسين يوسف لـ«الجمهورية» «أنّ الأهالي لن يصَعِّدوا غداً (اليوم) ، إنّما ندرس تحَرُّكاً في اتّجاه كازينو لبنان مساءَ السبت، عسى تصل الصرخة أسرع». وأضاف مطمئناً: «تأكّدتُ من الوزير وائل بو فاعور أنّ ملفّ العسكريين لا يزال في صميم اهتمامه ويتابعه في أدقّ تفاصيله ولن يتخلّى عنه مهما كلّف الأمر»، مشيراً إلى أنّه «لم يتلقَّ أيَّ تطمين أو اتّصال رسمي».
وكان قد انضمَّ إلى اعتصام الأهالي وفدٌ مِن «رابطة أبناء بيروت».
وفي هذا الإطار، شَدّدَ رئيس «المجلس الثقافي لمدينة بيروت» محمد العاصي على أهمّية دعمِ المجتمع المدني للأهالي: «نؤكّد تضامنَنا الكامل كمجتمع وكهيئات وجمعيات بيروتية مع هذه القضية الوطنية والإنسانية المحِقّة الكبرى، خصوصاً أنّ مدّة احتجاز هؤلاء قاربَت السَنة»، آمِلاً «إكتمالَ فرحة الأهالي بعودة أبنائهم مع حلول عيد الفطر».
في المناطق
بموازاة تحرُّكِهم في بيروت، اعتصمَت عائلة الجندي المخطوف سيف ذبيان، وشبّانٌ من بلدة مزرعة الشوف، عند التاسعة صباحاً على الأوتوستراد الساحلي في بلدة الدامور قربَ مفرَق الشوف، وقطعوا الطريقَ على الأوتوستراد في الاتجاهين بين صيدا وبيروت، وأحرَقوا الإطارات وسط الطريق ووضَعوا الحجارة والسيارات، مستعجِلين الحكومة إنجازَ ملفّ العسكريين.
وقال نوّاف البعيني: «نناشِد الخاطفين، ونتمنّى منهم الحكمة والترَوّي على هذه الطبَقة الفاسدة الموجودة لدينا في الوطن»، منتقِداً «النوّاب والحكومة»، داعياً إلى عدمِ «المتاجَرة بدماء شهداء الجيش، فالجيش شرفٌ وعنوان لكم ولأولادكم ووطنِكم». وتمنّى «إطلاقَ السجَناء بعفوٍ عامٍّ وتبادُل الأسرى حِفاظاً على أولادنا في الجيش، وعلى السِلم الأهلي في لبنان».
كذلك تحدّثت عقيلة الجندي المخطوف ذبيان سوسن فتمنَّت على الحكومة «عدمَ إطلاق الوعود الكاذبة، وعدمَ إعطائنا المسَكّنات بأنّهم يفاوضون»، مشيرةً إلى أنّ «الملفّ مازال كما هو منذ 11 شهرا».
هذا وقد تسَبّبَ قطعُ الطريق بزحمةِ سيرٍ خانقة، وصلَت معها أرتالُ السيارات إلى خلدة من جهة العاصمة، والجيّة مِن جهة الجنوب، حيث استمرّ قطعُ الطريق حتى الحادية عشرة والنصف قبل الظهر، لتفتحَ بعدما أزالَ عناصر قوى الأمن الداخلي وسياراتُ إطفاء الدفاع المدني، العوائقَ والإطارات المشتعلة.