IMLebanon

ثورة جيدار .. الرواية الداخلية للتحول الاقتصادي في روسيا

Godar
جون لويد من لندن

في أواخر عام 1991، زار أندريه نتشاييف محل سوبر ماركت بالقرب من مسكنه في موسكو. أراد شيئا للأكل – ولكن استقبله مشهد سريالي بدد خطته المتواضعة. ويتذكر إحساسه كما يرويه في كتاب “ثورة جيدار” قائلا “لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق في المتجر بأكمله”. وأضاف “لكن لا بد أن شخصا ما فكَّر في أنه لم يكن من الجيد أن تكون الرفوف فارغة، وبالتالي إنهم ملأوا جميع الرفوف بجرار من صلصة الطماطم الحادة الحارة. هذا كل شيء. سوبر ماركت ضخم، في الساعة السابعة أو الثامنة مساء يوم السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1991. وسط موسكو”. كانت لحظة كشْف للرجل الذي عين للتو نائبا لوزير الاقتصاد الروسي، الشخص الذي أوضح للبلاد ضخامة المهمة التي تواجه الحكومة التي كان هو جزءا منها.

أولئك “الإصلاحيون الشباب” – الذين جمعت إدارتهم نفسها تقريبا عن طريق المصادفة في موجة ليبرالية موالية للغرب رافقت اختفاء الاتحاد السوفياتي – عاشوا في عالم وهمي. أجبروا على المسير من خلال إصلاحات واسعة على الاقتصاد المتصلب والمفلس بوتيرة مذهلة. عاشوا خلال أيام محمومة، والعمل لمدة 16 ساعة في اليوم، حيث كانت فوائد التحرير في كثير من الأحيان مسألة إيمان – حتى حررت جزئيا الأسعار المحفزة لرد فعل السوق، وبدأت المحال التجارية في الامتلاء مرة أخرى.

زعيم هذا الفريق من الرجال (كلهم كانوا رجالا) كان ييجور جيدار، وهو اقتصادي قصير ممتلئ الجسم ولد في نظام النفوذ الحزبي السوفياتي – كان والده قائدا بحريا ومعلقا في صحيفة “برافدا”، في حين إن جده قائد الجيش الأحمر توفي وهو يحارب النازيين – لكنه كان يعمل، منذ شبابه، في مسألة كيفية إصلاح بلاده. حين بلغ 35 عاما من العمر، كان من بين أكبر الأعضاء سنا في مجلس الوزراء؛ كانت لديه سلطة طبيعية لأسرع دماغ، وما هو أكثر أهمية، قوة الإرادة والاستعداد لتحمل المسؤولية. هذه الصفات لحقت به خلال السنة التي كان فيها رئيسا للوزراء “بالوكالة” في بلد تعصف به عدة أنواع من الأزمات، ومن ثم من خلال الاستمرار في الخدمة وزيرا أول للاقتصاد ومستشارا دائما للرئيس بوريس يلتسين.

بيتر آفين وألفريد كوخ أنفسهما كانا وزراء إصلاح شباب في السابق، ويهدفان في الكتاب إلى تكريم ذكراه – توفي جيدار قبل نحو ست سنوات – من خلال إجراء مقابلات مطولة مع كثير من أعضاء “عصابة جيدار”، لاستخراج ما في ذاكرتهم، واستكشاف الخيارات التي اتخذوها، والتباكي على الأمور التي كان من الممكن أن تحدث لكنها لم تفعل، على نحو يؤكد الإنجازات. هذا الأسلوب ناجح في بعض الأحيان: الاستدعاء الشخصي للحوادث والمشكلات والصراعات التي تملأ الروايات الصحافية والأكاديمية بومضات من الضعف البشري والشجاعة، والضغينة والكرم. وفي أحيان أخرى، سمح كل من آفين وكوخ – أو شجعا – محاوريهما على الذهاب بعيدا جدا أسفل مسارات تتناثر فيها العداوات القديمة، والازدراء والتسريح من العمل. في النهاية، انزلقا في مقابلة مع وزير الخارجية الأمريكية (1989 ـ 1992) جيمس بيكر الذي يبلغ من العمر 85 عاما. آفين يضغط على بيكر بقوة ليدفعه للحديث عن سبب عدم إعطاء الولايات المتحدة روسيا مزيدا من المساعدات المالية، قائلا “إن ذلك كان من الممكن أن يسمح للروس بترسيخ الإصلاحات الليبرالية”. لم يعتقد بيكر ذلك، ولا يزال لا يرى ذلك.

لم يكن أعضاء عصابة جيدار جميعا من الأصدقاء. كانوا يتجادلون بشراسة، ولكن قناعات جيدار وأسلوبه العام المهذب، لكن المثابر، أبقاهم لفترة من الوقت جنبا إلى جنب. وكنت أول مراسل أجنبي يكتشف أنهم كانوا يضعون برنامجا اقتصاديا للبلاد، وأنه كان من المرجح لهم أن يعينوا لتنفيذه: قدت سيارتي مساء السبت إلى منطقة الفلل الراقية لموظفي الحكومة الكبار التي تبعد 40 كيلو مترا عن موسكو، وانتظرت جيدار ليطلعني بإيجاز على التطورات، بجوار قاعة المؤتمرات التي كانت تمتد العصابة فيها حول طاولة كبيرة مع المفكرات الموجودة أمامهم، حيث يمتزج خطابهم بانفجارات من الضحك لشبان عشية مغامرة كبيرة. لكن في المكتب الذي أطلقوا عليه بسرعة “حكومتهم الانتحارية” واعتقدوا، تماما على محمل الجد ولسبب وجيه، أنهم قد ينتهي بهم المطاف في السجن، أو أن يُعدَموا رميا بالرصاص.

كان جيدار زعيمهم، ولكن كان يلتسين، رئيس البلاد من 1991 إلى 1999، رئيسهم. تحول بشكل جذري للديمقراطية الليبرالية والأسواق الحرة، وكانت لديه في الوقت نفسه كل الغرائز كأمين أول يتم تعيينه بشكل جزئي للمنطقة الصناعية (سفيردلوفسك، 1976-1985)، وفهم عميق لردود الفعل من أولئك الذين حافظوا على النمط السوفياتي ظاهرا على الطريق. كان يثق بجيدار، حتى في الوقت الذي كان فيه يفصله من الحكومة ثم يعيده إليها، حينا يكون في الداخل لتخطي هذه الأزمة، ويخرجه حينا آخر لاسترضاء هذا الفصيل المضاد للإصلاح.

دون إعداد، ومع عادات أكاديمية ومع عدم وجود خبرة تنفيذية أبعد من قسم في الجامعة، أصبح جيدار رئيسا للوزراء في البلد الذي كانت تندلع فيه الحرب على طول القوقاز ومولدوفا، التي تم فيها تخفيض نفقات الدفاع على شراء الأسلحة إلى ثُمن المستوى الذي كانت عليه في العهد السوفياتي، الذي قد تقف فيه صفوف النساء المسنات في درجات حرارة دون الصفر خارج محطات المترو لبيع إطارات كانت تحوي صورا عائلية. تحمله لهذا العبء، مع يلتسين، هو دليل على شجاعته العظيمة. وأذكر أني ذهبت معه في كانون الأول (ديسمبر) إلى فوركوتا، المدينة الواقعة في أقصى الشمال التي بنيت لتكون مركزا لأرخبيل معسكرات الاعتقال. وفي احتفال بهيج لتأسيس المدينة التي تجاهلت ماضيها القاتم، نهض للمطالبة بأن يتذكر الناس التاريخ الوحشي، وطالب بتكريم جحافل سجناء المعسكرات الذين كانوا يعملون حتى الموت من التجمد. وكان يتعرض للصراخ عليه والمزاحمة أثناء خروجه. كانت تلك لمحة عما كان يواجهه هو وزملاؤه كل يوم.

الأمر الذي كان يغذي العداء هو حقيقة أن تعيينهم، وإجراءاتهم، تزامنت مع كارثة اقتصادية وبدا من الواضح أنهم كانوا مسؤولين عنها. أكثر من ذلك، تخصيص الاقتصاد، الذي تم بسرعة فائقة أفادت بشكل كبير الأشخاص الذين كانوا يمتلكون ما يكفي من الدهاء والاطلاع لمعرفة القيمة الحقيقية للأصول وكانوا قادرين على تنظيم مشترياتهم: انتقلت الملكية من الانتماء الاسمي إلى الشعب لتصبح مملوكة قانونيا من قبل القلة. لكن المهمة الرئيسية للإصلاحيين كانت إخراج السلطة الاقتصادية من يد الدولة، حيث كانوا يخشون أنه إذا لم يحدث ذلك، فمن الممكن أن تتجمع وتفوز ثورة ضد التحرير، وربما كانوا على حق في ذلك.

الإصلاحيون الشباب، كحال آفين وكوخ، يؤكدون أنهم لم يكونوا منشقين: كانوا أساسا مختصي اقتصاد متعلمين تعليما عاليا رأوا أن النظام السوفياتي قد انتهى، وأن السوق ومعها الديمقراطية يتعين الأخذ بهما. أصغرهم الآن في الخمسين من العمر، ومعظمهم تصالحوا مع عهد بوتين، منتقدين له من حين لآخر، لكن في العادة بصورة معتدلة فقط. آفين نفسه كان الأفضل من الناحية المالية: بثروة شخصية تقدرها مجلة فوربس بأكثر من خمسة مليارات دولار، هو الآن رئيس مجلس إدارة مصرف روسيا الرائد في القطاع الخاص، الفا بانك. ذهب نتشاييف ليصبح رئيسا لمصرف المؤسسة المالية الروسي (حتى عام 2013)، في حين إن أناتولي تشوبايس، الذي أشرف على عمليات التخصيص الأولية وعلِق مع يلتسين لأطول فترة، هو رئيس روسنانو، شركة تكنولوجيا النانو المملوكة للدولة.

لكن كوخ – من أصل ألماني، مع لقب عائلي كبير، رينجولدوفيتش – انتقل إلى ألمانيا العام الماضي قائلا إنه يخشى على حياته في ظل حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في الخريف الماضي نظم اجتماعا في بافاريا لعدد من الإصلاحيين الشباب. من بين الحضور كان الوزير السابق، بوريس نيمتسوف، الذي اغتيل في موسكو في شباط (فبراير). أما بالنسبة لجيدار، الرجل الذي يقع في قلب الثورة الليبرالية، فقد توفي في كانون الأول (ديسمبر) عام 2009، عن عمر يناهز 53 عاما. ترأست ندوة معه في مهرجان ترينتو الاقتصادي ذلك العام، وكان مشتتا ومنزويا. بالنسبة له، حياته السياسية كانت فاشلة، على الرغم من أن هذا التقييم الذاتي كان قاسيا إلى درجة تفوق الحد.

المتطرفون الاقتصاديون الرواد في فترة ما بعد الشيوعية – ليزيك بالسيروفيتش في بولندا، وفاتسلاف كلاوس في جمهورية التشيك، ومارت لار في إستونيا – تعاملوا مع اقتصادات أصغر حجما بكثير اقتيدت بشكل أقل وحشية بكثير، ومع أناس سعداء عموما لتخلصهم من الروس. كان جيدار مكلفا بمهة قيادة هؤلاء الروس نحو السوق والديمقراطية: وكان هدفه، على حد تعبير صديقه كارل بيلدت، رئيس وزراء السويد خلال فترة جيدار في منصبه، الذي وضعه في خاتمة الكتاب، هو أن تصبح روسيا “قوة أوروبية مزدهرة وديمقراطية ورائدة تعيش في وئام وتعاون مع جيرانها”. إن كون جيدار عجِز عن تحقيق هذه المهمة الضخمة فربما يكون قد أسهم في موته المبكر. أما كونها تبدو باستمرار على أنها أمر ممكن فهذا يعتبر بفضله إلى حد كبير.