خضر حسان
لم تكن نتيجة “لا” للتقشف ولسياسات الدائنين التي قالها 61.31% من الشعب اليوناني، “قفزة في المجهول” بالنسبة لمن يراقب بهدوء الأزمة اليونانية. فعلى عكس النوستالجيا التي نحا إليها كثيرون من مؤيدي اليسار في العالم، لم تنظر دول الإتحاد الأوروبي إلى النتيجة اليونانية على أنّها تَحرّر من قيود النظام الرأسمالي العالمي، أو تحرّر من قيود اليورو، على وجه الخصوص.
حتى ان اليسار اليوناني نفسه، وخصوصاً “حزب سيريزا” اليساري الراديكالي الذي يقود الحكومة، لم يرفع شعار التخلّي عن منطقة اليورو، حتى في “عزّ” حملته الإعلامية لدفع اليونانيين الى التصويت بـ”لا”. وأكّد زعيم الحزب، رئيس الحكومة الحالية أليكسيس تسيبراس، أنّ نتيجة الإستفتاء لا تعني القطيعة مع أوروبا، بل هي تعزيز لشروط التفاوض، كما أكد بيان للحكومة اليونانية أن “تسيبراس والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل اتفقا على أن تقدم اثينا مقترحات جديدة لقمة الاتحاد الأوروبي”، التي تعقد اليوم في بروكسل.
وتظهر ردود الفعل الأوروبية الهادئة، ان “التمرد” اليوناني لم يكن راديكالياً، بل وسطياً، يهدف الى المحافظة على أوروبيّة اليونان اقتصاياً، لكن مع تحسين شروط التفاوض في ما يخص الديون المتراكمة على البلاد. فالتصويت الذي أجري الأحد الماضي، لم يكن مع أو ضد اليورو، بل كان حول السياسات التي اشترطها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي لتقديم المساعدات المالية لليونان. وقد أعطت ردود فعل العواصم الأوروبية، تحديداً فرنسا وألمانيا، إشارة واضحة على ان نتائج الرفض اليونانية لن تفسد في الودّ قضية.
فبعد رفع منسوب التهديدات قبل الإستفتاء، بإخراج اليونان من دائرة اليورو ما لم تقبل بالشروط (منها استطلاع الرأي الذي أجري في المانيا منتصف الشهر الماضي، وكانت نتيجته 51% ضد بقاء اليونان ضمن الاتحاد الأوروبي) اكتفى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بمطالبة اليونان بإقتراحات “مسؤولة وجدية” لحل الأزمة، ورأى رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز بعد اعلان نتائج التصويت أنّه “ربما يترتب علينا منح قروض عاجلة لأثينا، حتى تستمر الخدمات العامة في العمل وأن يتلقى الناس المحتاجون المال الضروري للاستمرار”، واعلنت المفوضية الأوروبية أنها “تحترم نتيجة الاستفتاء”، على ان كلمة الفصل قالتها ميركل، التي إحترمت الديمقراطية اليونانية، وحملت ملفاتها الى بروكسل.
وبغض النظر عن النتائج الرسمية لقمة بروكسيل، الا ان ما يُنتظر منها يصب في إطار البحث الجدّي لديون اليونان وأزمتها الإقتصادية، بشروط أكثر “إنسانية” تأخذ في الإعتبار واقع عدم قدرة اليونان على التحمل. وسيقبل الدائنون بتخفيض منسوب الضغط لأن إفلاس اليونان له انعكاسات سياسية تضاف الى البُعد الإقتصادي. فإفلاس اليونان وخروجها من منطقة اليورو، يعنيان فشل سياسات هولاند – ميركل في إدارة الأزمات الأوروبية. وعليه، فإن الجميع سيقبل بتحقيق اليونان انتصاراً يحسن شروط تفاوضها، شرط الحفاظ على موقعها السياسي والإقتصادي الأوروبي، بدلاً من اعتماد سياسة الأرض المحروقة. ويبرز هذا الإتجاه مع ترحيب الولايات المتحدة الاميركية بخيار احتضان اليونان ومنع افلاسها. الا إذا كان الدائنون يضمرون شيئاً آخر.
في السياق عينه، سيؤدي التصعيد الأوروبي وعدم احتضان النتيجة اليونانية، الى ايقاظ صراع لم يصبح جذرياً بعد بين اليمين واليسار، والذي بدأت بوادره بالنضوج مع النتيجة اليونانية. وفي ذلك ايضاً انعكاس سلبي على السياسة الإقتصادية الأوروبية، تجاه بعض الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية مرشحة للتطور والوصول الى الحدّ اليوناني، مثل اسبانيا والبرتغال. والخوف يزداد لأن احزاب اليسار في البلدين تنشط بقوة، ويسهل عليها استثمار الانتصار اليوناني للضغط على أصحاب القرار في الاتحاد الاوروبي. وبالطبع، لا يريد هؤلاء تكرار التجربة اليونانية وسماع المزيد من التغريدات خارج السرب، خاصة وان روسيا والصين غمزتا من قناة تأييد التمرد اليوناني، “شماتة” بالإتحاد الأوروبي.
والى حين إعلان نتائج قمة العاصمة البلجيكية، يُسجّل لليسار الراديكالي انه عرف كيف يختار الظروف الموضوعية المناسبة لتنفيذ ضربته، واجبار الدائنين على الإستماع إليه والتفكير جدياً بمساعدة اليونان عوض إغراقها وخسارة قيمة الأموال المدفوعة كديون. ويُسجّل أيضاً في المشهد العام، ان الـ “لا” اليونانية هي في الوجه الآخر للعملة، “نعم” للإتحاد الأوروبي، على عكس ما ذهب إليه كثيرون بالقول إنّ نتيجة الإستفتاء هي ثورة ضد الإتحاد، وقرار بالإستقلال عن النظام الرأسمالي المسيطر، فمثل هذا الظن، هو خطوة في المجهول، لحزب يقود هيكل دولة آيل نحو السقوط.