مكرم صادر
من البديهي أن يتوقّف اللبنانيّون عند أزمة اليونان لاستخلاص بعض العبر والدروس بتهيّبٍ أكيد إنما من دون قلقٍ مبالغٍ به أو ارتياح غير مبرّر. وتقتضي الواقعيّة أن نعترف بتقاطع مع الحالة اليونانية في بعض نواحيها وبافتراق عنها في جوانب عديدة أخرى.
لبنان بدايةً ليس اليونان كما كتب أحد الزملاء الاقتصاديّين في جريدة «السفير» الأسبوع الماضي. فأوجه الافتراق بين لبنان واليونان تتلخّص بخمسةٍ: يأتي في مقدَّمِها أن لبنان لا ينتمي إلى مجموعة اقتصادية عالمية هامة كالمجموعة الأوروبية. وقد انضمَّت اليونان إليها منذ العام 1981.
ثانياً وفي السياق ذاته، لبنان ليس كاليونان عضواً في اتحادٍ نقدي يشكّل اليورو عملته المستقرّة والقوية، من جهة، ويفرض عليه قواعد عمل صارمة إلى حدّ الافتقار للمرونة، من جهة ثانية. ويفترق اليونان عن لبنان في المقام الثالث بمرجعيّة مديونيّته. فمديونيّة اليونان بمعظمها داخلية ولأطراف سياديّة يمكن التفاوض معها على تعديل شروطها وكلفتها وحتى خفضها، في حين أن مديونيّة لبنان، وإن كانت أيضاً بمعظمها داخلية، تخضع للسوق تسعيراً وكلفةً ويحملها القطاع الخاص (المصارف والجمهور) بنسبةٍ تقارب 60 في المئة. ولنا عودة الى موضوع المديونيّة لموقعها المركزي في أزمة اليونان الحالية. أما وجهُ الافتراق الرابع، فيعود إلى تفاوت محسوس بين معدّلات النمو التي سجّلها كل من البلدين. فقد بلغ معدّل النمو السنوي الوسطي في اليونان منذ انضمامها إلى السوق الأوروبية في مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي وحتى العام 2014، أي على مدى 33 سنةً، أقلّ من 1 في المئة (0.9 في المئة)، يقابله معدّل نمو سنوي فعلي في لبنان قدره 4.5 في المئة في متوسط فترة 1993-2014 ، إذ ارتفع الناتج بالأسعار الثابتة من 18920 مليار ل.ل. إلى 48015 ملياراً.
ويكمن وجه الاختلاف الأخير في الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية لكلّ من البلدين. فالاضطرابات والضغوط تحوق بجوار لبنان المباشر والأبعد بل وتعطّل عمل المؤسّسات الدستورية، ما يفقد لبنان الحدّ الأدنى من الحوكمة السياسية فيما لدى اليونان حكومة وبرلمان ورئيس بل والجرأة في الاحتكام بالقضايا المصيرية الى استفتاء الرأي العام.
وتتلخّص أيضاً سمات الاقتراب أو التقاطع بين أوضاع لبنان واليونان بثلاثة أوجه: أولّها التشارك بمديونيّة عامة مرتفعة بالمقاييس العالمية، ولو بتفاوت بين نسب الدين إلى الناتج حيث تخطَّت 140 في المئة في لبنان وقاربت الـ180 في المئة في اليونان. وفي حين أن معظم مديونية اليونان محرّر بعملتها الوطنية، أي اليورو (حتى إشعارٍ آخر…) تتوزّع مديونية لبنان العامة بين العملة المحلية بنسبة 60 في المئة والعملات الأجنبية بنسبة 40 في المئة. وهذا الواقع هو لمصلحة اليونان. وفي مصلحتها واقع آخر يتمثّل بكون معظم حمَلة الدين اليوناني جهات سيادية، وليس القطاع الخاص. فعلاً، يحمل الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي (ESFS) 142 مليار يورو، أي 44 في المئة من أصل ديون اليونان البالغة 323 مليار يورو (ما يعادل 360 مليار دولار)، والبنك المركزي الأوروبي 6 في المئة فيما تمثّل التسهيلات الأوروبية الأخرى أكثر من 16 في المئة، ما يجعل 66 في المئة من ديون اليونان ضمن المجموعة التي تنتمي إليها. تُضاف إليها 10 في المئة، أي 32.3 مليار يورو، ديون لصندوق النقد الدولي. بكلامٍ آخر، ان أكثر من 70 في المئة من ديون اليونان تعود لجهات سيادية. أما ديون المصارف والأسواق على شكل قروض وسندات فتصل إلى 19 في المئة. وتحمل المصارف اليونانية (والبنك المركزي اليوناني) ما يقارب 4 في المئة. أما المصارف في لبنان فتحمل في محافظها، كما في نهاية أيار 2015، نسبة 55 في المئة من الدين العام الإجمالي (38,2 مليار دولار من أصل 69.4 ملياراً )، فيما يحمل البنك المركزي والمؤسّسات العامة (ضمان الودائع وصندوق الضمان الاجتماعي) ما يقارب 30 في المئة. وتحمل الأطراف الخارجية 3 في المئة على شكل قروض سيادية ثنائية ومتعدّدة الأطراف. أما الجمهور من مقيمين وغير مقيمين من القطاع الخاص غير المصرفي، فيحمل النسبة المتبقّية أي 12 في المئة. وهكذا يتّضح أن التقاطع في حجم المديونية بين اليونان ولبنان يخفي تغايراً في الأطراف التي تحمله. وتتقاطع اليونان مع لبنان ثانياً في بنية الاقتصاد التي تعتمد في البلدين بشكل كبير على الخدمات والتي هي بطبيعتها ذات إنتاجية متدنّية مقارنةً عادةً مع القطاعات المنتجة للسلع (الزراعة والصناعة…) أو للخدمات المرتبطة بالإنتاج. ولقد سجَّلت اليونان خلال الـسنوات الثلاث والثلاثين المنصرمة، أي منذ انضمامها العام 1981 إلى الاتحاد الأوروبي، معدّل نمو سنوي وسطي قارب 0.9 في المئة.
وتُعتبر معدّلات النمو التي حقّقها لبنان بدورها متواضعة قياساً إلى الدول الناشئة وإلى الكَمّ الكبير من المساعدات المالية والرساميل التي دخلت إلى لبنان. والحال كذلك في اليونان التي تلقّت من السوق الأوروبية منذ مطلع ثمانينيّات القرن الماضي دعماً مالياً يرجَّح أن يكون قد فاق ضعفَيْ ناتجها المحلي الإجمالي. إن استعمال الأموال التي ضُخَّت في اقتصاد البلدين لم يكن مجدياً لتوليد نمو اقتصادي، بل ذهب إلى الخارج إما لتمويل الاستهلاك كما في حالة لبنان أو لتمويل المديونيّة كما في حالة اليونان.
ويقترب لبنان من اليونان في المقام الثالث بكون الناس فيه يعيشون فوق مستوى إمكاناتهم أو مداخيلهم الفعلية. ويُقاس ذلك إجمالاً بالعجز الكبير والمستمرّ في ميزان المدفوعات الجارية. فهو بكلامٍ آخر تعبير أو انعكاس لضعف الادّخار ولتضخّم الإنفاق العام والخاص. وتتمّ تلبية الحجم الزائد من الطلب عبر الاستيراد.
ويقدّر صندوق النقد الدولي العجز الجاري بنسبٍ غير معهودة عالمياً راوحت في السنوات الأخيرة بين 16 في المئة و26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. طبعاً، تحتاج تقديرات الصندوق لإعادة تقييم، ذلك أن تمويل هذا المستوى من العجز الجاري الخارجي يبدو صعباً لئلاّ نقول مستحيلاً. ويعتقد خبراء الصندوق في محاولة تفسير ذلك أن حجماً لا يُستهان به من الودائع المحلية قد يعود لغير المقيمين. ومنعاً لهذه الالتباسات غير المقبولة، لا بدَّ من تعاون جدّي بين البنك المركزي والمصارف ومديرية الإحصاء المركزي لإجلاء حقيقة الأرقام والتدفّقات المالية عبر الحدود، أي حسابات المدفوعات الخارجية.
في الخلاصة، العبرة الأولى ، أيّاً تكن حزمة الإجراءات والمعالجات التي قد تحظى أو لا تحظى بها اليونان، تكمن في واقع أن تخطّي الأزمة يحتاج بالإضافة إلى التصحيح المالي إلى تصحيح اقتصادي جذري ذي كلفة كبيرة جداً من حيث الوقت والتضحيات الاجتماعية. فالسيناريوهات للتصحيح المالي،على سبيل المثال، الذي يخفّض نسبة ديون اليونان إلى الناتج من 180 في المئة إلى 100 في المئة تتطلّب 40 عاماً، منها 20 عاماً كفترة سماح!!.. فما بالنا بالتصحيح الاقتصادي واستعادة الاقتصاد اليوناني قدرته على التنافس في سوقٍ أوروبية وعالمية تعمل في ظلّ معطيات وشروط تفتقر إليها اليونان. والعبرة الثانية، بالإضافة إلى عنصر الوقت ، تتعلّق بالإدارة السياسية والتقنية لعملية التصحيح المالي والاقتصادي. وليس سهلاً في بلدٍ كلبنان توفير مثل هذه الإدارة. فالمؤسّسات لدينا معطّلة ولا تعمل حتى بالحدّ الأدنى، فكيف إذا عاد الأمر إلى قرارات استراتيجية صعبة. وأخيراً، تكمن العبرة الثالثة في تمفصل اليونان كما أشرنا أعلاه مع أهم مجموعة اقتصادية هي أوروبا. ويعمل اللبنانيّون مع الأسف على قطع لبنان عن محيطه وعن مداه الاقتصادي الحيوي، عنينا به الدول العربية والخليجيّة تحديداً. كما تمَّ قطعه اقتصادياً ومالياً عن المجموعة الأوروبية، وحتى عن البنك الدولي. فكم من اتفاقيّات القروض تنام في أدراج الحكومة والمجلس النيابي ولا من يسأل ولا من يحاسب!