بعد نحو شهرين على تسليمه الحقيبة الديبلوماسية التي حملها طوال أربعين عاماً، حمل الامير سعود الفيصل حقيبة أعماله وغادر الى العالم الآخر، تاركًا خلفه آثار رحلة طويلة قضاها في رسم سياسة بلاده الخارجية، ومواقف وبصمات في مختلف الأزمات التي واجهتها الدول العربية والاسلامية، فهو اللاعب الماهر الذي كان يُحسب له حساب من حلفائه وأعدائه سواء على الساحة الإقليمية أو الدولية، حتى بات من أشهر وجوه الدولة السعودية، الذين استطاعوا أن يردّوا ضربات كادت أن تكون قاضية لدول عدة في الشرق الاوسط.
عميد وزراء خارجية العالم وأقدمهم الذي شغل هذا المنصب منذ تشرين الأول عام 1975، استطاع التعامل بحنكه وحكمة مع عواصف عدة هبّت على المنطقة، منها الغزو الاسرائيلي للبنان، والانتفاضتان الفلسطينيّتان، والحرب العراقية الإيرانية، والاجتياح العراقي للكويت، واحتلال قوات التحالف العراق بقيادة الولايات المتحدة، وبعد أن لفح الربيع العربي دول عربية عدة استطاع الفيصل تجنيب بلاده تأثيراته. وعلّق على ذلك الكاتب السعودي جمال خاشقجي في حديث مع صحيفة “النهار” قائلاً: “كان الفيصل متفهماً الربيع العربي لكن في تلك الفترة كان يمثل حكومته، فكان يقوم بالدور المطلوب منه للحكومة، كان عليه أن يمثل رأي الدولة، لكن في الجلسات معه كان يحلّل ويفهم الربيع العربي وظروفه ودوافعه”.
يده في الطائف
ابن مدينة الطائف كان له اليد الطولى في التوصل الى الاتفاق الذي وضع حدًّا للحرب الاهلية اللبنانية، فقد كان بحسب خاشقجي “شبه مرابط مع اللبنانيين في الطائف، لا يتدخل كثيراً لكنه موجود دائما هو والأمير تركي الفيصل، حينها كنت صحفيًّا، وغطّيت بعض فعاليات الاتفاق وكنت أشاهد كيف كانا يراجعان كل المسودات ويقرآن كل الافكار، وضع الفيصل يده في الموضع الى ان أنجز بعد حوالي اسبوعين من المفاوضات الشاقة”.
التحرّك ضد بشار
كان مهندس السياسة الخارجية السعودية يجمع بين الاعتدال واللين في آن، وبعد أن ضرب اعصار الربيع سوريا وجه مناهضو المملكة أصابع الاتهام لها بأنها المسؤولة عن دعم المعارضة والجماعات التكفيرية. وعن ذلك، يذكر خاشقجي حديثًا جرى يقول “في الفترة التي اعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري توتّرت العلاقة بين السعودية وسوريا، وكانت هناك مجموعتان حول الامير في الخارجية، مجموعة تقول بضرورة احتواء بشار الاسد حتى لا يسقط بيد الايرانيين مئة في المئة، ومجموعة أخرى تقول باغتنام الفرصة والقضاء على النظام، وانا كنت من المجموعة الثانية، وفي حديث مع الامير قال لي يا جمال لا نستطيع ان نتحرك الآن ضد النظام وبشار، لأنه عندما يشعر المواطن العربي ان هذا التحرك خارجي يلتف حول زعيمه، لكن عندما يكون التحرّك داخليًّا وصادقًا يمكن أن ينجح. اعتقد أن في هذه النظرية حكمة”.
علاقته بالأميركيين
وعن العلاقات السعودية – الاميركية، لفت خاشقجي الى انه “كانت هذه العلاقة تهمّه وكان حريصاً عليها، ومعروف انه رغم اعتداله كان مصدر قوة، لذلك لم يكن يتردد ان يضغط في الوقت المناسب. وأذكر انه في العام 2005 ألقى الامير سعود كلمة في مجلس العلاقات الخارجية، واحدة من اشهر كلماته في انتقاد الاميركيين قال فيها: ايها الاميركيون لقد قدمتم العراق للايرانيين على صحن من الذهب، هذه الجملة أزعجت الاميركيين، لكنها كانت وصفًا صحيحًا للحماقات التي ارتكبها جورج بوش الابن”.
جادّ في كلمته
التقى جمال خاشقجي بالامير سعود مرات عدة بحكم عمله كصحفي ومن ثم كمستشار اعلامي. ومما يذكر عنه أنه كان يأخذ كلماته التي يلقيها في مجلس الامن بشكل جاد. وشرح “كان يجمعنا في الليلة التي تسبق إلقاء كلمته ويوزّع علينا مسودات عنها، ثم يقف ويبدأ بإلقائها كـ”بروفا” وما ان يتعب، حتى يجلس ويتابع قراءته، وبعد ان ينتهي يراجعه مستشاروه، ويطلبون منه ان يعدل عليها، طوال الليل يضيفون ويحذفون وبالتالي عندما يلقي الكلمة يلقيها بقوة ومعرفة”. واستطرد “لم يكن من المسؤولين الذين تعطى لهم الكلمة فيلقونها وتكون اول وآخر مشاهدة لها، لأنه كان يعلم ان كلمته تمثل المملكة”.
ما لم يحقّقه
في نيسان الماضي، أُعفي الفيصل من منصبه بناء على طلبه، بعد ان أتعبه مرض “الباركنسون”، فسلم الحقيبة الى السفير السعودي السابق في واشنطن عادل الجبير. ترك منصبه من دون ان يحقق امرًا مهمًّا وهو الشيء الوحيد الذي لم يحقّقه بحسب خاشقجي “لم ينقل نشاطه الى كل سفرائه”.
وشرح: “كان أنشط من بعض العاملين في السياسة الخارجية، فكان لا يتردد في حضور اية مناسبة وإلقاء كلمة، وعندما كان يحلُّ في بلد ما كان يدبّ النشاط في السفارة السعودية”.
رحيل الفيصل هذه المرة حقيقة وليس اشاعة كما كان يشاع سابقًا، رحل بعد أن ترك مدرسة في الديبلوماسية تفيض بخبرة رجل أنهكه المرض ولم تنهكه أزمات دول!