ورد كاسوحة
قبل يومين من طلب اليونان قرضاً جديداً من آلية الاستقرار الأوروبية كان وزراء المال في مجموعة اليورو يلومونها على عدم تقديمها «خطة إصلاحات» جديدة، معتبرين أنّ ما بحوزة وزير المالية اليوناني الجديد من أوراق لا يرقى إلى مرتبة الخطّة المتكاملة. حصل بعد ذلك نقاش بين الطرفين، حيث أوضح إقليدس تساكولوتس الرجل الذي خلف يانيس فاروفاكيس في حقيبة المالية أن الخطّة موجودة خلافاً لما يقوله نظراؤه الأوروبيون، وأنها ستوضع على الطاولة أثناء الخطاب الذي سيلقيه رئيس الوزراء اليوناني اليكسيس تسيبراس في البرلمان الأوروبي. وفي هذا الوقت – تحديداً بعد انتهاء اجتماع وزراء المال في بروكسيل وانعقاد قمة منطقة اليورو وبعدها جلسة البرلمان الأوروبي المخصّصة لمناقشة ديون اليونان – عادت الضغوط الأوروبية للتصاعد على حكومة سيريزا، مستفيدةً من «المرونة» التي أبداها تسيبراس لتفادي حصول «إفلاس متوقّع» للبنوك اليونانية.
صحيح أنّ الرجل يتفاوض هذه المرّة من موقع أقوى، ولكنه لا يملك سلطة على الأموال التي تأتي إلى المصارف اليونانية من البنك المركزي الأوروبي، فهذه الآلية ليست من ضمن الأمور التي يمكن ضبطها ديمقراطياً عبر استفتاء شعبي. هي مُصمّمة لإعطاب الديمقراطية المباشرة ومنع الحكومات التي تتمتع بشعبية كبيرة من استكمال آليات إدارة الدولة وفقاً لمصالح الأكثرية الشعبية، والأوروبيون يعرفون ذلك جيداً، ولهذا يعوِّلون على قدرتها إن لم يكن على تعطيل الاستفتاء بالكامل، فعلى الأقلّ الحدّ من تبعاته عبر جعل الحكومة «مضطرّة» إلى القيام بما كانت تقوم به قبله. وهذا ما يفسّر معاودة التفاوض في الصفقة الجديدة بين الحكومة والدائنين على البنود الخاصّة بصناديق التقاعد والضريبة على القيمة المضافة وإجراءات الخصخصة المحدودة.
وزير المالية بقي مصرّاً حتى اللحظة الأخيرة قبل استقالته على «وحدة المسار التفاوضي»
«تفاصيل» العرض الجديد
على هذا الأساس جرى التلويح بمهلة يوم الأحد كحدّ أقصى لتقديم خطّة الحكومة الجديدة للإصلاحات، وقد قِيل للحكومة اليونانية أيضاً أن هذا الوقت يجب أن يكون كافياً لإحداث تغيير في الصيغة المقترَحة للاقتطاعات المالية، والتي كانت حكومة تسيبراس تصرّ على ابتعادها عن صندوق التقاعد و»الإعفاءات الضريبية» للجزر اليونانية. في المقابل ترى الحكومة أن أيّ اتفاق جديد بينها وبين الدائنين لا يمكن إبرامه من دون إعادة هيكلة جذرية لديون اليونان، على الأقلّ عبر شطب ثلاثين في المئة من الديون التي تعادل 176% من الناتج المحلّي الإجمالي. وهو ما ترفضه بشدّة الحكومة الألمانية، بينما يعتبر صندوق النقد الدولي على لسان مديرته كريستين لاغارد انه الحلّ الوحيد الممكن لتفادي خروج اليونان من منطقة اليورو، وبالتالي تجنيب أسواق المال الدولية مزيداً من الهزّات، وخصوصاً بعد الانهيارات الحاصلة حالياً في البورصة الصينية. وربطاً بهذه الاقتراحات ترى الحكومة أيضاً أنّ على الدائنين تحديد الفائض المالي الذي يقترحونه للموازنة العامّة، لأن النسب السابقة المُقترَحة والتي كانت تتراوح بين 1% و2% على مدى سنتين لم تعد مقبولة بعد الرفض الذي أبداه الناخبون اليونانيون لخطط التقشّف السابقة والتي كانت تتضمّن هذا القدر تحديداً من الفائض الأوّلي.
البعض يرى خلافاً لما تقوله الحكومة اليونانية أنّ الاقتراحات المقدّمة من جانبها لا تختلف كثيراً عن تلك التي رفضها اليونانيون في استفتاء الأحد الماضي، ويسوقون على ذلك أمثلة من قبيل أن ما سيقدّم يشمل الإبقاء على خصم في ضريبة القيمة المضافة على الجزر اليونانية، وهذا في رأيهم لن يحدث فرقاً في الفائض، ولكنهم ينسون أن بعض المقترحات إنما تشمل بالفعل «زيادات ضريبية حقيقية». على سبيل المثال تقترح الحكومة فرض ضريبة بنسبة 23% على أرباح المطاعم في زيادة نسبتها عشرة بالمئة عن الضريبة التي كانت مقترحة سابقاً (أي 13%)، وكذا الأمر بالنسبة إلى شركات الملاحة البحرية التي تُعتبَر من أكثر القطاعات ربحية في اليونان، حيث شملتها الزيادة الضريبية وباتت مثلها مثل كلّ القطاعات الاقتصادية الأخرى المدرّة للربح (المرافق السياحية والجزر مثلاً)، والتي يمكن بالاعتماد عليها تحقيق فائض ترى الحكومة أنه سيخدم سياستها الجديدة مع الدائنين. حالياً هي تطالبهم لقاء ما تحقّقه من فائض بتمويل يصل إلى 53،5 مليار يورو، على أن تكون مدة السداد ثلاث سنوات، أي حتى نهاية عام 2018. وهذا أقلّ ما يمكن للدائنين تقديمه لليونان بعد كلّ ما أقدمت عليه من «تنازلات» في المُقترح الجديد، والذي سيكون على الأغلب محلّ نقاش حادّ بين أعضاء الائتلاف الحاكم لأنه لا يتناسب مع سقف الرفض الذي تمّ التعبير عنه في استفتاء الخامس من تموز الجاري. وفي ما يلي أبرز بنود العرض الجديد الذي قُدم إلى الدائنين مساء الخميس الماضي، وسأوردها كما جاءت في وسائل الإعلام المختلفة، أي بشكل تفصيلي:
ــ زيادة ضريبة القيمة المضافة، حيث ستصبح في حدود 23% على قطاع المطاعم فيما ستبقى عند عتبة 13% على معظم المنتجات الأساسية والكهرباء والفنادق، ولن تتجاوز نسبة 6% على الأدوية والكتب وبطاقات المسارح.
ــ إلغاء الامتيازات الضريبية للجزر، حيث سيحدث تخفيض بنسبة 30% على ضريبة القيمة المضافة المطبق سابقاً، وذلك بدءاً من الجزر الأكثر ثراءً.
ــ «إصلاح نظام التقاعد» والذي سيحدد بموجبه سن التقاعد بـ67 عاما أو 62 عاماً بعد أربعين عاماً من العمل، على أن يجري رفعه تدريجياً حتى عام 2022.
ــ عمليات الخصخصة، وهو الإجراء الأكثر تعارضاً مع نتيجة الاستفتاء، حيث ستوافق الحكومة بموجبه على بيع الحصّة المتبقية للدولة في رأس مال مؤسّسة الاتصالات اليونانية، بالإضافة إلى قيامها باستدراج عروض لخصخصة مرفأي بيريوس وتسالونيكي بحول تشرين أول المقبل.
ـــ أهداف الموازنة، والتي ستقوم الحكومة عبرها بمراجعة قيمة الفائض المطلوب الذي يحدّده لها الدائنون، فبدلاً من اعتمادها لفائض أوّلي بنسبة 1% و2% و3% على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة ابتداء من سنة 2015 سيجرى تقليص هذا الاعتماد بشكل كبير ليصبح متناسباً مع أزمة نفاد السيولة التي تسبّب بها المصرف المركزي الأوروبي بعد إيقافه برنامج المساعدات الدوري للبنوك اليونانية.
إدارة الحكومة للعرض
وكما قلت فإنّ بعض البنود في العرض الجديد ليست محلّ إجماع من أعضاء الحكومة، وخصوصاً في ما يتعلق «بإصلاح نظام التقاعد» والضريبة على القيمة المضافة والشروع في عمليات خصخصة ما تبقى من المرافق الحكومية. وهذا ما سيتضح من النقاش الذي سيجريه البرلمان اليوناني اليوم أثناء التصويت على الصفقة الجديدة (يُفترض أن يكون التصويت قد جرى أثناء كتابة هذا المقال). وحتى قبل التصويت بدأت الأصوات المعارضة للبنود الجديدة بالظهور، ومنها مثلاً وزير الطاقة في الحكومة باناجيوتيس لافازانيس المحسوب على الجناح الراديكالي في سيريزا، والذي قال في معرض تعليقه على الخطّة الجديدة: «لا نريد أن نضيف إلى الانقاذين السابقين الفاشلين إنقاذاً ثالثاً يتضمّن تقشفاً صارماً لا يعطي أيّ فرص مستقبلية للدولة. اليونان لن تواجه حكماً بالإعدام، وهي ليست على استعداد للقبول بسياسة الأمر الواقع». لكنه عاد لاحقاً ليتحدث عن إمكانية حصول اتفاق مع الدائنين، وهذا في الحقيقة لا يعبّر عن تناقض في الكلام المنسوب للرجل بقدر ما يبدو متّسقاً مع سياسة الحكومة التي تعتمد منذ بداية المحادثات مع الدائنين على استراتيجية محدّدة في التفاوض، مهما كان حجم الاختلاف بين أعضائها حول تفاصيل البنود الخاصّة «بالإصلاحات». فاروفاكيس مثلاً (وزير المالية المستقيل) كان من أشدّ المعارضين للحدّ من سياسات الإنفاق الاجتماعي ولكنه لم يضع ملاحظاته تلك في سياق التعارض مع سياسة الحكومة، وبقي مصرّاً حتى اللحظة الأخيرة قبل استقالته على «وحدة المسار التفاوضي» الذي تقوده الأخيرة، إلى درجةٍ بدا معها مقتنعاً بأن خروجه لا يُعدّ تنازلاً من الحكومة أمام الدائنين كما يقول البعض، وإنما «مناورة سياسية» لتقوية موقعها التفاوضي وتسهيل المحادثات بينها وبين الدائنين. وقد اتضح بعد الاستقالة أنّ الاستراتيجية المُتبعة حكومياً لم تتغيّر، وان الوزير الجديد لا يختلف عن فاروفاكيس إلا بالأسلوب وطريقة إدارة التفاوض. أما الملفّات التي يديرها فقد بقيت هي نفسها، وحتى عندما يحدث تغيير فيها تكون الحكومة التي يترأسها تسيبراس هي المسؤولة عنه، وليس هذا الوزير أو ذاك.
خاتمة
في حال حدوث انقسام حادّ هذه المرّة حول بنود العرض الجديد فانه سيصبّ على الأغلب في مصلحة استمرارية التفاوض وليس العكس، إذ إنّ الأكثرية الآن (في البرلمان والحكومة) معه، وان كانت لا توافق أحياناً على هذا التفصيل أو ذاك وتُضطرّ في ضوء هذه الملاحظات إلى التدخّل بغرض «تصحيح المسار» كما حدث أخيراً مع فاروفاكيس، وكما سيحدث مستقبلاً مع غيره. بالنسبة إلى هؤلاء التوقّف عن التفاوض مع الدائنين في هذه المرحلة الدقيقة يعني الإخلال بالتفويض الذي أعطتهم إياه الأكثرية الشعبية، فهي انتخبتهم ليوقفوا سياسات التقشّف لا ليَخرجوا – على الأقلّ في الوقت الحالي – من منطقة اليورو أو الاتحاد الأوروبي، وعندما تنضج الظروف لخروجهم فسيحصل ذلك ولكن برغبة الأكثرية أيضاً. حالياً هي تطالبهم بتنفيذ رغبتها المُعبّر عنها في نتيجة الاستفتاء، وهذا الطلب مرتبط باستمرار التفاوض لا بإيقافه، وإذا تبيّن أن هنالك إخلالاً من جانب الحكومة بالتفويض الذي حصل عليه تسيبراس بموجب الاستفتاء فسيخسر هذا الأخير شعبيته وستنتقل مهمّة التفاوض مع الدائنين بغرض إجبارهم على شطب الديون أو إعادة هيكلتها إلى غيره. المهمّ أن تبقى الاستراتيجية هي نفسها، وألا يتنازل اليونانيون عن المكسب الذي تم تحصيله خلال فترة وجود سيريزا في السلطة. حتى الآن يقول تسيبراس انه سيحافظ على هذه المكتسبات ولن يرضخ بالتالي لمطالب الدائنين، ولكن التنازلات التي قدّمها في عرضه الأخير تُمثّل تحدّيا جدياً لاستراتيجيته التفاوضية ولقدرته على إقناع ناخبيه بما يقوم به. الأحد (أمس) سيُظهِر على الأرجح قدرة الحكومة على الاستمرار من عدمه، وهذا الاستمرار سيكون مرتبطاً بالتسويات الاجتماعية والسياسية التي تعبر عنها الحكومة وبرلمانها الأكثري أكثر منه بقرار الدائنين وردِّهم الجماعي على العرض اليوناني الجديد.
* كاتب سوري