يثير الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى أسئلة أكثر بكثير مما قدمه من إجابات، عندما يتعلق الأمر بمصير ملفات المنطقة الساخنة والمسار الذي تسلكه وهل سيكون تسووياً وعلى أي أسس، أم صدامياً، ووفقاً لأي قواعد اشتباك؟
وبرأي مصدر ديبلوماسي عربي في بيروت، فإن ثمة مبالغات كبيرة في مقاربة هذا الموضوع من جهتين: الجهة التي تتفاءل بأن الاتفاق سيتيح لإيران أن تكون شريكاً كاملاً للغرب في تسوية الملفات الساخنة، خصوصاً على حساب العرب. والجهة الثانية التي تقلل من أهمية الاتفاق وتعتبره مجرد تسوية لملف نووي بين طرفين، ولن تتجاوز مفاعيله إلى أمور أخرى.
وأكد في حديث لصحيفة “السياسة” الكويتية أن العلاقات الدولية ليست ببساطة تتيح الانحياز إلى أحد هذين الرأيين، أو ترجح مقاربة جهة على حساب جهة أخرى. فهذه العلاقات أكثر تعقيداً من هذا الحساب البسيط. ولمحاولة الإجابة على كل التساؤلات التي يثيرها الاتفاق ينبغي التركيز على الأمور التالية: أولاً: لقد تطلب إنجاز هذا التفاهم عشر سنوات من النزاع، وسنتين من المفاوضات الشاقة. وجاء الاتفاق متوازناً إلى حد بعيد، بحيث لجم الطموحات النووية الإيرانية من جهة، وحقق لطهران الخلاص من الضائقة الاقتصادية من جهة ثانية. وهذا سيتيح للغرب التخلص من خطر انتشار السلاح النووي، خصوصاً بجوار أوروبا.
وفي الجهة المقابلة، سيتيح لإيران أن تنعم بثرواتها التي حرمت منها بفعل العقوبات. إلى هنا يبدو الاتفاق يحقق مصالح ذاتية لطرفيه، ولا يتيح لأي منهما أي سلطة إضافية على الآخر. ثانياً: إذا كان اتفاق بين طرفين، تطلب عشر سنوات، فكيف الحال إذا تقرر الانتقال إلى قضايا المنطقة وأزماتها؟ وهنا تتداخل عوامل كثيرة، وتلعب دول مؤثرة أدواراً حاسمة.
وبالتحديد، إذا تناولنا قضية اليمن، فثمة تحالف عربي واسع فرض قواعد لعبة جديدة، من خلال “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل”، فلم تعد طهران تملك اليد الطولى، في وقت أصبح حلفاؤها في موقع دفاعي. فكيف يفاوضها الغرب على ما لا تملكه؟ وفي العراق أيضاً، أفلت الزمام من الحكم الموالي لإيران مع سقوط نوري المالكي، ويبدو أن الأجندة الغربية هناك بتسليح الشعب العراقي في الوسط والشمال مستمرة، بحيث ستعود البلاد بعد إنهاء ظاهرة “داعش” هناك إلى توازن جديد بين مكونات الشعب العراقي، على حساب الطموحات الإيرانية. ولو سلمنا جدلاً أن جهة أرادت التفاوض مع الإيرانيين على هذين الملفين، فإنها ستكون الطرف الأقوى، وطهران الطرف الأضعف. ولا يمكن إيجاد حلول في البلدين المذكورين، إلا بمفاوضات شاقة لا أحد يعرف نتيجتها، لكنها بكل الأحوال لن تكون لمصلحة عودة النفوذ الإيراني. ثالثاً: ثمة ملفات أكثر صعوبة للجميع، وبالتحديد الأزمة السورية وربطاً بها الأزمة اللبنانية. فإيران هنا تجد شريكاً هاماً في دعم النظام السوري وهو روسيا، وفي حال حصلت مفاوضات على مصير هذا النظام، فستكون عملية معقدة، ستدخل فيها عوامل وأزمات أخرى، مثل قضية أوكرانيا، كما أنها ستكون شاقة وخصوصاً للإيرانيين. فالأسد منهار تماماً، وهو لا يستمر إلا بالدعم الإيراني الواسع، بالمال والسلاح والرجال (حزب الله والحرس الثوري).
وما يجري حالياً في سورية، هو حرب استنزاف لإيران وليس لنظام الأسد. هي لعبة عض أصابع، يبدو الغرب فيها مرتاحاً، لأنه غير متورط أصلاً. فلماذا يفاوض ويقدم التنازلات؟ رابعاً: الملف الوحيد الذي سيشهد تبريداً هو الملف الإيراني (عبر حزب الله) ـ الإسرائيلي، وهو في حالة ركود أصلاً، ولا مشكلة لإيران أن يظل الوضع على حاله، طالما أن أولوياتها هي الخروج من حرب الاستنزاف السورية بأقل الأضرار الممكنة. وكذلك إسرائيل التي تتفرج على أعدائها، يتقاتلون مع انعدام فرصة فوز أحدهم، لذا من المؤكد أن جبهة لبنان مع إسرائيل، ستظل هادئة لفترة طويلة. خامساً: بالنسبة للبنان فإنه قد يحظى باهتمام ما، بعد إهمال طويل لوضعه. ولكن ليس بهذه السرعة، فالأمر سيظل متعلقاً بالأزمة السورية. وإذا كان موضوع الشغور الرئاسي سيطرح على بساط البحث كاستثناء، فإن رياحه لن تجري كما تشتهي سفن العماد ميشال عون ومن خلفه “حزب الله”، فاحتمال حصول خرق في جدار الأزمة اللبنانية في نقطة واحدة، هي انتخابات الرئاسة، بفك الارتباط مع الأزمة السورية، مرهون بحصول توافق جزئي، إقليمي دولي، بتحييد لبنان، وهذا لن يكون إلا بانتخاب رئيس توافقي، وهو ليس عون بالتأكيد.
ورأى المصدر الديبلوماسي العربي أن تفاؤل حلفاء طهران المفرط بعودتها إلى الساحة الدولية بقوة، له ما يبرره، من ناحية واحدة، وهي أن إيران ستخرج من أزمة اقتصادية مالية كادت تخنقها، وهذا سيتيح لها تقديم المزيد من الدعم لجماعاتها في لبنان وسورية والعراق واليمن، بما يسمح لهم بإطالة الأزمات في بلدانهم وتصعيدها. كما توعد خامنئي بقتال الأميركيين وحلفائهم حتى النهاية. ولكن هل ستفعل طهران ذلك حقاً، أم أنها ستنصرف أكثر لشؤونها وأزماتها الداخلية؟
وأكد المصدر أن السلوك الإيراني في مقاربة ملفات المنطقة سيكون تحت الرقابة اللصيقة، في الأشهر المقبلة. فإذا أمعن الإيرانيون في التورط بشؤون الدول العربية، فعندها لن يتم التراجع عن الاتفاق الموقع في فيينا، لأنه شأن مستقل، لكن ستخسر طهران أي فرصة للتفاوض، أو حتى للحديث مع أي جهة عربية، أو غربية بشأن الملفات العربية. وهذه بالأساس هي حدود الاتفاق النووي.