عبد الرحيم الطويل
بينما كان ينتظر المتشائمون أن تبدأ أزمة مالية عالمية من قلب أثينا عاصمة اليونان، بسبب حجم ديونها الخارجية الذي يبلغ 350 مليار يورو، جاء الخطر الأكبر من الشرق وتحديداً من الصين التي تعتبر ثاني أكبر اقتصادات العالم، كيف لا وبورصة التنين قد خسرت أكثر من 30% من قيمتها في أسابيع قليلة وهو ما يعادل بلغة المال ما يفوق 3.5 تريليونات دولار، وهو ما يعني أن ما خسرته الصين في أسابيع كان من الممكن أن يسدد جميع ديون اليونان – التي راكمتها في 31 عاماً – أكثر من 9 مرات.
وبحسبة أخرى خسائر البورصة الصينية توازي أكثر من الديون الخارجية لليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا مجتمعة.
الفرق بين أزمة الصين وأزمة اليونان أن الأولى خسارة سيولة داخلية توزعت على 90 مليون صيني، وهؤلاء لا يستطيعون لوم أحد فهذه هي لعبة التداول في البورصة، أما في اليونان فديون اليونان تكبدها عدد قليل من حكومات الدول وأهمها ألمانيا وفرنسا، بينما تستطيع لوم الحكومات اليونانية المتعاقبة على سذاجتها وعدم مسؤوليتها في التعامل مع الوضع.
حركة تصحيحية
بدأت الأزمة الصينية قبل شهر من الآن، حين بدأت المؤشرات المالية في الانخفاض تدريجياً يوماً بعد يوم، في موجة وصفها البعض بحركة تصحيحية لما شهدته هذه الأسواق من ارتفاع كبير على مدار عام من الآن.
وكما هو معروف أن أي ارتفاع كبير في مؤشر للبورصة سيأتي وقت لينخفض بنفس الدرجة، لكن ما حدث في الصين أن النسبة التي حققها المؤشر في أكثر من عام خسرها في أقل من شهر، خصوصاً وأنه وعلى العكس من أسواق الأسهم الرئيسية الأخرى التي يهيمن عليها مديرو أصول محترفون، يسهم المستثمرون الأفراد بنحو 85% من التداولات الصينية، وهو ما زاد من اضطراب السوق.
وبعد أسبوع من الانخفاض تأكد المستثمرون وحملة الأسهم أن موجة الهبوط مستمرة، ما دفعهم للقيام بعمليات بيع مليونية، لإيقاف نزيف الدولارات وإنقاذ ما تبقى من قيم الأسهم. وطبعاً عمليات البيع أدت إلى انخفاض أكبر. حتى وصل حجم الخسائر في قيمة الأسهم إلى أكثر من 3 تريليونات دولار، (وهو ما يقارب حجم اقتصاد ألمانيا ويفوق اقتصاد فرنسا). لتقرر حكومة الصين التدخل!
التدخل الحكومي
أصدرت الجهات الحكومية (هيئة البورصة) قراراً يمنع كل من يملك أكثر من 5% من أسهم أي شركة (كبار المساهمين) من بيع حصصهم من الأسهم في الشركات المدرجة في البورصة لمدة 6 أشهر.
كما أصدرت الهيئة قراراً بإيقاف جميع عمليات الطرح الأول والاكتتاب مؤقتاً إلى أن تهدأ الأوضاع. كما أوقفت المضاربات على العقود. كما أعلنت أكثر من 1300 شركة مدرجة في البورصات الصينية تعليق التداول على أسهمها.
التدخل الحكومي الصيني لم يتوقف عند هذا الحد بل أن هيئة البورصة أعلنت في وقت سابق من الشهر الجاري أن مؤسسة تمويل الأوراق المالية الحكومية قد قدمت أكثر من 260 مليار يوان (41.8 مليار دولار) إلى 21 شركة سمسرة لمساعدتها على تجاوز الأزمة الراهنة. كما شملت القرارات فرض حظر استخدام الوسطاء أدوات تساعد العملاء على التهرب من قيود التداول بالهامش.
وجاءت أصعب الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في 12 يونيو الماضي، عندما أعلن المنظمون الصينيون حداً جديداً للمبلغ المالي الذي يستخدمه الوسطاء في أسهم إقراض الهامش، وحظر المتاجرة بنظام الهامش غير المشروع من خلال آليات مثل مظلة الثقة؛ ومنذ تلك اللحظة بدأت الأسهم الصينية في الانهيار.
أيضاً قامت 21 شركة سمسرة صينية كبرى بنشر إعلان منسق؛ حيث تعهدوا بشراء أسهم صينية بقيمة 120 مليار دولار للمساعدة في تحقيق الاستقرار في السوق، كما تعهد الوسطاء بالحفاظ على شراء الأسهم، كما ألغت 28 شركة يملكها القطاع الخاص خططاً لعقد الاكتتابات العامة الأولية وكل تلك التحركات بناءً على طلب من الحكومة الصينية.
وأعلن البنك المركزي الصيني أنه سيضخ سيولة في شركة مملوكة للدولة وتمول التداول بالهامش، كما أذن لشركات التأمين بشراء المزيد من الأسهم وعرض المزيد من القروض لمساعدة الناس على شراء الأسهم. إلا أن السوق تجاهل هذه التدخلات ليخسر مؤشر شنغهاي المركب بنسبة 1.3% يوم الثلاثاء وبنسبة 5.9% إضافية يوم الأربعاء.
أسباب الانهيار.. تصحيح أوضاع أم عيوب في الاقتصاد؟
سواء أكان الانهيار هذا مجرد تصحيح للأوضاع بعد عام من المكاسب الكبيرة، أم أنه أول علامات وجود مشكلات أعمق في الاقتصاد الصيني، فمكاسب الأسهم الصينية التي ارتفعت العام الماضي لم تعكس مكاسب اقتصادية؛ وهو ما خلق جواً من عدم الاستقرار وشعور المستثمرين بالخطر؛ خوفاً من الخسائر الضخمة التي قد يمنون بها مع انخفاض السوق.
أيضاً كان الاستثمار بالأموال المقترضة يخضع لقيود شديدة في الصين؛ إلا أن السلطات قد خففت منها تدريجياً ومن اللوائح المنظمة لها منذ 2010.
حتى في خلال الفترة تلك، وجد الشعب الصيني سبلاً مبتكرة للتهرب من هذه اللوائح، حتى انخفاض الأسهم في البورصة في الشهر الماضي كان بعد جهود بذلتها السلطات الصينية لكبح جماح هذا النوع من الاستثمارات المضاربة؛ إلا أن الحكومة قد تراجعت الأسبوع الماضي عن مسارها وبدأت في تعزيز أسعار الأسهم مرة أخرى.
المأزق الصيني الحالي يشبه الوضع في الولايات المتحدة عام 2007 عندما انتشرت الاستثمارات المالية السيئة والمحفوفة بالمخاطر، وهو ما خلق انتشاراً لخطر الانهيار، والذي توسع من البورصة إلى الاقتصاد الصيني الذي لا يعدو كبيراً كالأسواق المالية في الدول المتقدمة.
الاقتراض للاستثمار
تختلف الطفرة في سوق الأوراق المالية في الصين عن تلك التي سبقتها، التي استمرت ما بين عام 2005-2007، وتزامنت مع النمو السريع للاقتصاد الصيني. وعندما تباطأ الاقتصاد الصيني عام 2008، انخفض سوق الأسهم معها.
فليس من المستغرب أن ترى الأسهم ترتفع في الظروف الاقتصادية الجيدة وتهبط في الركود الاقتصادي، ولكن الأمر مغاير في الطفرة الأخيرة؛ حيث ارتفعت سوق الأسهم منذ منتصف 2014 رغم بطء النمو الاقتصادي.
ويرجع ذلك إلى أن كثيراً من الناس بدأوا بشراء الأسهم بأموال مقترضة، تلك الممارسة المعروفة بالتداول بالهامش، وهو الأمر الذي كانت تنظمه الحكومة الصينية بدقة؛ إلا أن السلطات قد خففت من القيود المنظمة تدريجياً على مدى السنوات الخمس الماضية في الوقت الذي وجد فيه الناس طرقاً غير مسبوقة للتهرب من القيود والمتطلبات؛ وهو ما جعل الرهانات أكثر خطورة مما تسمح به القواعد الرسمية.
فأغُرقت سوق الأسهم الصينية ما بين يونيو 2014 إلى يونيو 2015 بالأموال المقترضة؛ وهو ما ساعد على رفع أسعار الأسهم بزيادة 150% خلال تلك الفترة. ولتتسبب أيضاً في تضخم المقدار الرسمي للتداول بالهامش في سوق الأسهم الصينية من 403 مليارات يوان إلى 202 تريليون يوان، وهذا الرقم لا يؤخذ في الاعتبار إذا تم حساب مبالغ الاستثمارات الطائلة التي يتم التعامل فيها من الأبواب الخلفية.
منتجات إدارة الثورات
عُرفت ممارسة الاستثمارات بالأموال المقترضة، وكانت أكبر مسببات الأزمة المالية لعام 2008 بالولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال: قامت البنوك الكبيرة بوضع رهانات عالية الاستدانة على رهون عقارية محفوفة بالمخاطر استناداً على توقعات عقارية مفعمة بالتفاؤل، وعندما بدأت أسعار العقارات في الانخفاض خسرت البنوك أموالها بشكل أسرع؛ وهو ما وضع رؤوس أموالها الخاصة على المحك.
وهو ما قام به الأفراد في الصين بالدخول في استثمارات عالية الاستدانة، رغم ما أشار إليه يان ليانغ – الخبير الاقتصادي في جامعة ويلاميث – وهو أن الأصول التي تحيطها المخاطر في الصين للأفراد وليست للمؤسسات المالية.
البنوك الصينية تقدم منتجات لإدارة الثورات (WMPs) والتي تعد بتأمين حساب التوفير لكن مع عوائد أعلى، وبعض WMPs تعمل مثل صناديق أسواق المال الأميركية التي تقدم عوائد أعلى بشكل طفيف من خلال الاستثمار في الأصول الآمنة مثل سندات الشركات والحكومة ذات الجودة العالية؛ لكن في حالات أخرى تستثمر البنوك الأموال بطرق أكثر خطورة.
في الولايات المتحدة تأثرت المؤسسات المالية الكبيرة من الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر لتتعثر ويتطلب الأمر خطة إنقاذ. لكن الأمر في الصين يخص الأفراد، الذين سترهقهم معظم التكاليف إذا خسروا الرهانات. قد يكون ذلك خبراً ساراً للاقتصاد ككل؛ لأنه يعني أن المؤسسات المالية أقل عرضة للتدمير، لكن ملايين أبناء الشعب الصيني من الطبقة المتوسطة الذين سيفقدون مدخراتهم هو ما قد يمثل خطراً سياسياً على الحزب الحاكم في الصين.