IMLebanon

نهوض رأسمالية الصين بين مطرقة الأخلاق وسندان الأرباح

Shanghai-Stock-Exchange-China-Rising
جون بليندر

الاقتصاد الرأسمالي لديه قدرة هائلة على انتشال الناس من الفقر. إلا أنه يُكافح من أجل خلق مجتمع عادل. وفوق ذلك، فإن دورات الطفرة والانهيار، فضلاً عن الأزمات المالية، هي من السمات الدائمة في النظام.

للوهلة الأولى، فقاعة سوق الأسهم المُدهشة التي عاثت فساداً في بورصتي شنغهاي وشينتشن في الأسابيع الأخيرة، تبدو صينية بشكل فريد. بعد كل شيء، لقد تمت إثارتها من قِبل الدولة، بدون شك، بهدف إعادة رسملة الشركات المُضطربة المملوكة للدولة بشكل رخيص، وذلك لارتفاع أسعار الأسهم للغاية.

الصعوبة التي تواجهها بكين في دعم السوق منذ الانخفاض الأخير توضّح حدود النموذج السلطوي والتدخلي للرأسمالية في الصين. الفقاعة تظل فقاعة بغض النظر عن المكان. ترويض وحش الرأسمالية تبيّن أنه يتطلب حذقا ومهارة في الصين كما هو في الغرب.

توضّح الصين على نطاق بطولي الحقيقة الأساسية بشأن النظام الرأسمالي الذي اعتمدته في عام 1978، تحت قيادة دينج شياو بينج. هذا نموذج لديه قدرة هائلة على انتشال الناس من الفقر، لكن مقابل ثمن لا يتعلق فقط بميل رأس المال لترويع العاملين المحرومين من إنسانيتهم في المراحل الأولى من التصنيع؛ ولا بقسوة التدمير المُبدع والدورات المُضطربة التي ميّزت النظام منذ الثورة الصناعية حتى الأزمة المالية الكبيرة لعام 2008. بل هناك أيضاً ارتفاع مستويات التباين الاجتماعي التي رافقت الرأسمالية في العقود الأخيرة – خاصة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية وفي الصين.

هناك سؤال أكثر جوهرية يتعلق بالشرعية، يتعلق بالدور المركزي للدافع المالي – باختصار، الجشع – في دفع النمو الاقتصادي.

مناهضة التجارة عبر تاريخ مختلف المجتمعات منذ أفلاطون

وكما يُقال، فإن العبقري الاقتصادي جون ماينارد كينز قد أشار إلى “أن الرأسمالية هي الاعتقاد المُدهش بأن أسوأ الدوافع من أسوأ الرجال بطريقة أو بأخرى، تعمل لتحقيق أفضل النتائج في أفضل العوالم المُمكنة”.

هذا القلق حول الطابع الأخلاقي للمال يعود على الأقل إلى أفلاطون وأرسطو.

في كتاب (القوانين)، اتهم المُتحدّث الأثيني، الشخصية الرئيسية في كتاب أفلاطون، الأعمال بأنها “تتوالد في نفوس الرجال بطريقة غير أخلاقية وتتطلب حذقا ومهارة”. أرسطو، أيضاً، كان غاضباً بشأن التجارة، التي يعتبرها على حد سواء أنها حقيرة وتميل إلى تقويض الالتزام المدني. بعد ذلك، كان هناك عيسى -عليه السلام- الذي لم يملك وقتاً للأغنياء، وبولس الذي أشار إلى أن حب المال كان أصل كل الشرور.

رجال الأعمال لديهم سمعة سيئة بقدر الأعمال نفسها. من العصور القديمة حتى يومنا هذا، كانت تتم السخرية من ابتذال وادّعاء رجال الأعمال الذين اغتنوا حديثاً، بلا رحمة من قِبل كُتّاب الرواية والمسرح، لكونهم المثل الأعلى للضيوف المُثيرين للاشمئزاز في مأدبة تريماشيو في رواية ساتريكون لبترونيوس، وشخصية المسيو جوردان في مسرحية موليير، الذي ابتهج حين اكتشف أنه كان طوال حياته يتحدث نثرا.

الروائيون من القرن التاسع عشر مثل بلزاك وديكنز وزولا ودوستويفسكي برعوا في فن تصوير الغيلان البائسة والتجّار المُحتالين. في العصر الحديث، قليل من المؤلفين، باستثناء ملحوظ هو آين راند، هلّلوا للفوائد الاجتماعية لخلق الثروة في الروايات أو الشعر.

علينا أن نعترف أنه في كثير من التاريخ، كانت المشاعر المناهضة للأعمال مُحدّدة للبنية السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يُساعد على تفسير السبب في كون الرأسمالية مزروعة بشكل غير مريح في ثقافات كل من الغرب والشرق.

قيم أفلاطون وأرسطو، التي نقلها توماس الأكويني من القرن الثالث عشر، واصلت الحياة في أوروبا في عصر الإقطاعية. في ذلك الوقت، جاءت السلطة والثروة من الأرض – حيث كان الأرستقراطيون يحتقرون التجارة. صناعة وبيع الأسلحة، وإدارة العقارات والعمل في الكنيسة كانت المهن الوحيدة المناسبة للنبلاء، فلم يكُن لديهم الوقت للفضائل البرجوازية في ادخار المال والمغامرة.

وينطبق نفس الشيء على جزء كبير من آسيا. علماء الكونفوشيوسية الأوائل في الصين كانوا يعلّمون أن هناك تسلسلا هرميا للوظائف، أي المهن الأربع التي تبدأ بـ: العلماء، ثم تمر عبر الفلاحين في الريف، ثم الحرفيين الفنانين، وصولاً إلى التجّار الوضيعين. في مجتمع الطبقات الإقطاعي في اليابان، على مدى عدة قرون قبل عودة ميجي في عام 1868، ينحدر التسلسل الهرمي من الساموراي، إلى المزارع، إلى الحرفي وأخيراً التاجر، الذي كان يُعتبر في أحسن الأحوال شرا لا بد منه.

لماذا كان كثير من الازدراء يتعلق بمجال الأعمال والمال؟ السياق الاقتصادي يوفّر جزءا من الجواب. لقرون من الزمن كان هناك نمو ضئيل أو معدوم في نصيب الدخل لكل فرد. بدون النمو، كانت التجارة تبدو لعبة مُحصّلتها صفر، حيث إن ربح أحد الرجال، كان لا محالة يُلحق الخسارة برجل آخر. بالتالي، كان يبدو الأساس الأخلاقي للتجارة مشكوكاً فيه.

في الصين، شهد التسويق التجاري التدريجي بين القرن العاشر والقرن السابع عشر، في عهد سلالات سونج ومينج، تخفيف نبذ الفئات المهنية واستيعاب التجّار الأغنياء في طبقة النبلاء أصحاب الأراضي – على الرغم من أن بيروقراطية الصين، كانت لا تزال بمثابة عائق قوي أمام تطوير اقتصاد رأسمالي.

مسيرة الأعمال الطويلة لاستحقاق القليل من الاحترام في أوروبا بدأت بشكل جدّي مع دول المدن الإيطالية. بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر، اختلط التجّار والمصرفيون مع الطبقة الأرستقراطية الحاكمة القوية، الأمر الذي قطع الصلة بين السلطة والأرض.

لقد أصبح اقتصادهم قائما على المال واتخذ شكلا رأسماليا أوليا، بمعنى أنهم كانوا متجذّرين في تبادلات السوق ومدعومين من قِبل حقوق ملكية واضحة إلى حد معقول. حتى إن بوكاتشيو، في رواية ديكاميرون، كان قادراً على التصريح بأن “التجّار نظيفون ورجالاً مُهذّبون”.

في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، شهد المناخ الفكري في أوروبا خطوة نحو التغيير. في أعقاب الحروب الدينية المُدمّرة في أوروبا، عمد الفلاسفة مثل جروشوس، وسبينوزا وهوبز إلى مهاجمة القيم العسكرية التي كانت قد سادت عبر العصور الوسطى، وتقاليد الكنيسة في مناهضة المادية.

هدفهم من ذلك كان لما فيه مصلحة لضمان السلام والاستقرار، وتحويل الناس بعيداً عن البطولات العسكرية، والانشغال بالخلاص الأبدي على حساب الازدهار في الوقت الحالي.

في نفس الوقت، فإن الكتّاب مثل سرفانتيس في رواية دون كيشوت دأبوا على السخرية من القيم البطولية للأرستقراطية في القرون الوسطى، في حين إن حكم المؤلف لاروشفوكو أكدّت النفاق البشري والمصالح الذاتية والغرور والجشع بدلاً من فضيلة الشهامة.

نقلة آدم سميث الحاسمة في تغيير المسار

ثم جاء آدم سميث، مع تمجيده في عام 1776 المصلحة الذاتية في كتاب (ثروة الأمم). حاول مونتسكيو، الفيلسوف السياسي الفرنسي من القرن الثامن عشر، جعل التجارة محترمة من خلال امتداحها في كتابه(روح القوانين)، “…. الأثر الطبيعي للتجارة هو أنها تؤدي إلى السلام.

دولتان تتبادلان التجارة معاً تُصبحان في وضع اعتماد متبادل على بعضهما البعض: إذا كان لدى إحداهما اهتمام بالشراء، يكون لدى الأخرى اهتمام بالبيع؛ وجميع الاتحادات الناجحة والمستدامة، تستند إلى الاحتياجات المُتبادلة”.

قواعد اللعبة تغيّرت بشكل كبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية، التي جسّدت أعمال ما نعرفه الآن بأنه الرأسمالية – النظام الذي سينتشل الملايين من الفقر المُدقع.

العقبة الخفية كانت الرأسمالية الدموية التي جلبت معها الحدود القصوى من دورة الأعمال ودورة أموال أكثر تطرفاّ بكثير، الأمر الذي أدى إلى انتقادات وحشية – خاصة من ماركس وإنجلز، اللذين شعرا بالصدمة من استعباد الرأسمالية الطبقة العاملة.

شيلر، في كتابه (رسائل عن التربية الجمالية للإنسان)، أعرب عن غضبه من انتصار الفائدة على الفن، في حين إن أوليفر جولدسميث، في قصيدته “القرية المهجورة”، سلّط الضوء على الاضطرابات الاجتماعية التي نشأت من التحضّر الذي رافق التصنيع.

من بين النقّاد الأكثر إدراكاً كان جوته. في مسرحية (فاوست)، خاصة في قصته عن مشروع استصلاح الأراضي الكبير الذي وضعه فاوست مع (الشيطان) مفستوفيليس، توقّع الانتقادات للرأسمالية التي نشأت في وقت لاحق من القرن التاسع عشر.

اليوم في العالم المُتقدّم، تم تخفيف أقسى ملامح الرأسمالية من قِبل تدخل الدولة، وإن كان على حساب زيادة الدين العام إلى حد كبير، لكن القلق بشأن الأساس الأخلاقي للرأسمالية يبقى، على حاله.

على النقيض من ذلك تماماً، حاول كينز وضع أفضل مظهر لها في كتاب (النظرية العامة)، “الميول البشرية الخطيرة يمكن أن تتدفق إلى القنوات غير الضارة نسبياً، بسبب وجود الفرص لكسب المال والثروات الخاصة التي إن لم يكُن بالإمكان إرضاؤها بهذه الطريقة، فقد تجد منافذها بقسوة، فالسعي المتهوّر للقوة والسلطة الشخصية، هي أشكال أخرى من التفخيم الذاتي. من الأفضل للرجل أن يستعبد حسابه المصرفي من أن يستعبد زميله المواطن”.

إنها فكرة مُثيرة للاهتمام، لكنها تبالغ في سلامة الحجة المؤيدة للمال، مع تلميحها الضمني أنه لو تم إعطاء كل من هتلر أو ستالين أو ماوتسي تونج مصنع نسيج لإدارته في سن مُبكرة، لكنّا قد تجنبنا أسوأ الفظائع في القرن العشرين.

الرأسمالية لديها حقائقها الأبدية. إحداها هي أنها لم ولن تخلق أبدا الاقتصاد السياسي لمجتمع عادل. وأخرى وهي أن الطفرة والانهيار، جنباً إلى جنب مع الأزمات المالية الشديدة، هما من السمات الدائمة في النظام. الفقاعة الصينية، مثل الأزمة المالية لعام 2008 في الغرب، تذكرة مفيدة بهذه الحقيقة الأساسية.