عشيّة عيد مار شربل، دخلَ بولس اليمّوني المغارة التي كان يقصدها القدّيس شربل يومياً للصلاة قربَ منزله في بقاع كفرا، ليخرجَ بعد وقتٍ مِن التأمّل والخشوع، ويكتشفَ أنّ “حدَثاً عظيماً” قد حصَل معه.
كلّ شيء في لبنان تغيّرَ بالنسبة إلى بولس، الذي هاجرَ إلى سيدني وهو إبن بلدةِ بصرما قضاء الكورة. الأرض، الديموغرافيا، “النفسيات”، حتى مغارة القدّيس شربل لم تعُد مثلما كانت عام 1975، عندما زارها للمرّة الأخيرة، إذ اندلعَت الحرب اللبنانيّة وانخرَط في المقاومة المسيحية دفاعاً عن الوجود.
هاجرَ بولس إلى أوستراليا لأنّ وضعَ لبنان لم يعُد يَسمح بتأمين لقمة العيش، خصوصاً أنّه متزوّج ورُزق بثلاثة أولاد. عملَ في سيدني مدّة طويلة، إلى أن واجهَته مشكلة صحّية منذ نحو 5 سنوات، فلم يعُد قادراً على تحريك أصابع يديه.
فقصَد عدداً كبيراً من الأطبّاء في أوستراليا، فأبلغوه أنّه مصابٌ بـ”الروماتيزم” المزمِن الذي لا شفاءَ منه. وعلى رغم ذلك، تلقّى إبرةً علاجيّة في عضمِ يدِه ما زالت آثارها ظاهرة حتى اليوم، إضافةً إلى جلسات العلاج الفيزيائي الأسبوعيّة. كلّ ذلك لم ينفَع، واستمرّت آلامه إلى أن قرّر العودة إلى لبنان منذ نحو العامين، والإقامة في بلدتِه بصرما.
أصيبَ بولس بصدمةٍ كبيرة، عندما اكتشفَ أنّ المجتمع اللبناني تغيّرَ بهذا الشكل، خصوصاً أنّ كثُراً نصحوه بعدم العودة، وقالوا له: “هل أنت مجنون لتتركَ سيدني وتعود إلى لبنان لتطبّق فقط شعارَ أريد أن أعيش وأموت في أرضي ولن أتخلّى عن بلادي؟”.
الأسبوع الماضي، بلغَ الألم درجاتٍ لا تُحتمل، وزاد بشكل غير مسبوق، ففَقدَ بولس الأملَ في الشفاء بعدما تعبَت أعصابه، لكنّه لم يفقد الإيمان بالقدّيس شربل، فصعدَ ليلَ الجمعة إلى بقاع كفرا، المكان المحبَّب إلى قلبه، حيث حصَل المستحيل.
إلتقينا بولس في بصرما بعد زيارته بقاع كفرا، والذهول لم يفارق وجهَه على رغم معرفته أنّ القديش شربل قادر على كلّ شيء. يَروي بولس لـ”الجمهورية” الأعجوبة التي حدثَت معه، فيقول: “قصدتُ مع عائلتي المغارة التي كان يصَلّي فيها شربل، وفوجئتُ بالتغيّرات التي طرأت عليها، إذ أتذكّر أنّه منذ 40 عاماً كانت مغارةً تُعلّق على أحد جدرانها صورةُ مريم العذراء وإبنها يسوع يصَلّي لها، أمّا الآن فأصبحَت المغارة ديراً”.
ويضيف: “نزلتُ من السيارة سيراً وسار إبني معنا على رغم أنّ رِجله مكسورة، وفورَ دخولي ناولتني راهبة إبريقاً من الفخّار، فشربتُ، مِن ثمّ ركعتُ وتلوتُ صلاةً علّمني إيّاها الأبونا الحبيس أنطونيوس شينا، وقلت: “أيتها العذراء التي حُبِل بها بلا دنس، صَلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليكِ”.
وطلبتُ مِن شربل أن يتطلع بنا وبحالتنا وبعائلتي ويَحفظ لبنان، من ثمّ وقفتُ وغسلت يديّ بالجرنِ المقدّس من دون أن أشعرَ بأيّ شيء إستثنائيّ، وخرجتُ مِن المغارة ومشيت مع عائلتي في أزقّة بقاع كفرا، وفجأةً أدركتُ أنّ أصابعَ يديَّ تتحرّك، لم أستوعب بادئ الأمر ماذا يحصل، لكنّني عدتُ وحرّكتُها مجدّداً وناديتُ زوجتي وقلت لها: أنظري مار شربل شفاني.
لم يتعَب بولس طوال لقائنا معه من تحريك أصابع يديه، ويتحدّث عن عظَمة القدّيس شربل وقدراته التي لا يستطيع عقلٌ بشَريّ تخَيُّلَها، وعن تمسّكِ الموارنة والمسيحيين في العالم وتعَلّقِهم به، ويشير إلى أنّه “فور استيعاب الصدمة الإيجابية التي أحدثَها شربل لي، ذهبتُ إلى كنيسة السيّدة في بقاع كفرا، وصَلّيتُ، مِن ثمّ عدتُ إلى منزل شربل وفتحتُ يديَّ ووضعتهما على صورته، وصلّيت أيضاً بعمقٍ وشكرتُه. لم يكن هناك كاهنٌ لأخبرَه بالأعجوبة، فعدتُ إلى بصرما وإيماني كبير بهذا القدّيس الذي فعلَ ما عجزَ عنه الطبّ”.
يُعبِّر بولس عن تمسّكه بالإيمان الماروني العميق الذي هو السبب الأوّل وراء صمود الشعب في المغاور والكهوف. وبعد زيارته بقاع كفرا، سيزور بولس سيّدة بشوات التي تربطه بها علاقة روحانية، ويؤكّد أنّ عودته إلى لبنان “هي العودة إلى بلاد المسيحيين الأصليّين الذين دفعوا ثمناً غالياً للحفاظ على وجودهم، ومار شربل أعطاني إشارةَ العودة”.
لا ينسى بولس أن يروي لنا قصّة أثّرَت به في بداية الحرب اللبنانية، عندما كانت المعارك مشتعلة، فالتقى الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية آنذاك الأباتي شربل قسيس في الجمّيزة، عندما كانت الرهبنة العمود الفقريّ للمقاومة اللبنانية، فسأله عن صحّة الأخبار المتداولة عن أنّ الرهبنة ستبيع الأرضَ للحفاظ على الصمود، فوقفَ الأباتي قسيس وقال بغضَب: “سنبيع أرضنا لدعمِ شعبنا، وإذا اضطررنا سنبيع ثيابَ الرهبنة ليبقى المسيحيون في لبنان، فما نفعُ الأرض والرهبان إنْ لم يعُد هناك شعبٌ مسيحيّ حرّ ينبض بالحياة.”
تتوالى أعاجيب القدّيس شربل، ويستمرّ منزله في بقاع كفرا ودير عنّايا مقصداً لجميع المؤمنين وطالبي شفاعته، ويتأكّد يوماً بعد يوم أنّ لبنان أرضُ القداسة، وأنّ المسيحيين خميرة هذه الأرض التي لن يقوى عليها جميع سلاطين العالم.