Site icon IMLebanon

هكذا اصطاد الجيش “نعيم عباس”

صباح 12 شباط ألقي القبض على نعيم عباس.. وما هي إلا ساعات قليلة حتى فكّك الجيش سيارة مفخّخة في كورنيش المزرعة، وتناهت إلى مسامع العارفين اعترافات “الصيد الثمين”.

استغرب كثيرون السّرعة القياسيّة التي أزاح فيها “الماكر الكبير” السّتار عن صندوقه الأسود، تماماً كما ذُهِلَ المحقّقون من صراحة “أبو خالد المقدسي” الذي تبوّل في ثيابه فور إلقاء القبض عليه.

على الأغلب، فإنّ نعيم عباس هو أسهل المجرمين بالنسبة للمحققين، الذين لم يكلّفهم إلّا عناء طلب فنجان قهوة وسيجارة و “سندويش” جبنة، ليعترف بما يكتنزه!

“الإرهابي العتيق” تمّ اصطياده بـ “عمليّة نظيفة” استغرقت 3 دقائق جنّبت لبنان “سيناريو” جهنّمياً لأكبر عمليّة إرهابيّة كان يحضّر لها ابن مخيّم عين الحلوة وينفّذها ثلاثة انتحاريين يوم الأربعاء 12 شباط 2014 (يوم إلقاء القبض عليه).

في هذا اليوم بالتحديد وعند ساعات الصباح الأولى، كان من المفترض أن يقتحم “انغماسي” حاجز مبنى قناة “المنار” في الأوزاعي ليقتل الحراس الخمسة، ليتبعه الانتحاري “شادي” ويفجّر السيارة المفخّخة (بأكثر من 100 كيلوغرام من المتفجّرات) التي كان يقودها، وهي من نوع “تويوتا راف فور”.

وبعد ساعات قليلة، يقتحم “فادي” بسيارة من نوع “كيا” مفخّخة بالحجم نفسه، شارعاً ضيقاً في الشياح، فيما يطلق عباس الصواريخ بشكلٍ مركّز على المناطق المستهدفة بعد أن يتجمّع الناس فيها.

من وشى بـ”الرأس المدبّر”؟

حضّر “أبو خالد المقدسي” نفسه جيّداً لهذا “اليوم الكبير”، واستضاف في منزله الكائن في الطريق الجديدة الانتحاريَّين الإثنين “فادي” و “شادي”.

وفي هذا الوقت، أكمل حياته بشكلٍ طبيعي وحتى أنّه خرج برفقة إحدى الفتيات إلى حريصا قبل أسبوع واحد من موعد التنفيذ. لم يكن “الإرهابي الماكر” يدرك أنّه أضحى تحت المراقبة بعد أن أقرّ عمر الأطرش أنّ “أبو خالد المقدسي” هو العقل المدبّر لتفجيرات الضاحية. تماماً كما لم يعرف أنّ المخابرات الأميركيّة زوّدت الجيش اللبناني باسمَي زائريه: “شادي” و “فادي”، بالإضافة إلى رقم هاتف خلوي يُستخدم في التواصل معهما.

كان رقم الهاتف هذا تحديداً هو الطعم الذي اصطاد به الجيش “قائد الإرهابيين”. فبعد ساعات من المتابعة، التقط الرصد الأمني اتصالاً من رقم هاتف أرضي بالرقم المشبوه، ليتبّين أن الهاتف الأرضي هو هاتف للعموم ضمن محلة ابو شاكر في الطريق الجديدة. ثم تمّ تحديد مكان الهاتف الخلوي المشبوه، في شقة تقع في الطبقة الثانية من مبنى في المنطقة نفسها.

وعلى الفور، عقد اجتماع أمني تقرر خلاله رصد الشقّة ثم القيام بـ “عملية نظيفة” من دون نقطة دم، على اعتبار “أنّنا نريد الهدف حياً”.

ومساء الثلاثاء 11 شباط 2014 وفي الشارع حيث يمكث الانتحاريان، زُرعت العيون الأمنية التي التقطت ثلاثة أشخاص يدخلون ويخرجون إلى الشرفة بطريقة منتظمة.

حتى هذه الساعة، لم يكن الجيش على علم بأنّ الهدف المراقب هو نعيم عباس. هذا الأمر لم يحصل إلّا صباح الأربعاء عند الساعة 6.45 عندما خرج أحد الثلاثة إلى الشرفة، فأرسل عنصر أمني إشارة إلى قيادته تفيد بأن هذا الشخص يشبه إلى حدّ بعيد نعيم عباس.

صدفة أن يكون العنصر الأمني يعرف عباس قلبت المقاييس. وفوراً، وضع المسؤولون احتمال وجوده في الشقة في سلّم أولوياتهم، وأعطوا أوامرهم بأنّ هذه العمليّة تحتاج إلى الكثير من الحيطة والحذر، وكذلك تتطلب التنفيذ الفوري لعملية المداهمة وإلقاء القبض على مَن في الشقة.

في المقابل، ومن دون أن يدري، حوّل “أبو خالد المقدسي” الشكّ إلى يقين بعد أنّ خرج عند الساعة السابعة والنصف صباحاً إلى الشرفة ليدخّن سيجارة ويراقب الشارع بتفاصيله. حينها أرسل العنصر الامني إشارة سريعة: “أنا أراه جيداً من موقعي ومتأكّد أنّه نعيم عباس”.. وبعد ربع ساعة، خرج الشاب ذو الشعر واللحية المائلين إلى اللون الأحمر من المبنى.

شكّك عباس المراقبين من جديد. الرجل الأنيق حليق الذهن الخارج للتوّ لا يبدو إرهابياً، فهو يرتدي بذلة كحلية اللون وقميصاً أزرق، ويتأبّط بيد حقيبة “لابتوب” ويحمل باليد الأخرى بذلتَين ملفوفتَين بالنايلون.

.. وقُبِضَ على الرجل الأنيق

وبرغم هذا التمويه، قرّر الأمنيون إتمام المهمّة. فتبع أربعة عناصر أمنيّة ـ بشكلٍ مموّه ـ “الهدف” الذي مشى سيراً على الأقدام باتجاه موقف للسيارات في كورنيش المزرعة، وفتح الباب الخلفي لسيارته “بيجو 306” وعلّق البذلتَين.

وما ان الْتَفَّ وفتح صندوق السيارة وحنى ظهره ليضع “اللابتوب” بداخله، حتى انقضّ العناصر الأربعة عليه ورموه أرضاً حيث ثبّتوه وصوبوا اسلحتهم نحو رأسه. سئل الرجل الذي ذُعِر والذي أخذ يتنفّس بسرعة، عن اسمه لأكثر من ثلاث مرات وكان يجيب بلكنته الفلسطينيّة: “علي البزري”. وعاجله قائد القوة بضربة على رأسه قائلاً: “والله ووقعت يا نعيم عباس”، فمال بوجهه صوب قائد القوة وجحظت عيناه متفاجئاً من دون أن ينبس ببنت شفّة. فصرخ فيه قائد القوة: “نعيم.. نعيم” ، ليجيب في المرّة الثانية: “نعم”، ويردّ على سؤال قائد القوة عن اسم والده: اسماعيل.

وفيما سيق عباس إلى التحقيق بعد تفتيشه حيث ضبط معه مبلغ 20 ألف دولار و3 آلاف يورو وثلاثة أجهزة هاتف و7 بطاقات هاتف “سيم كارد”، باشرت العناصر الأمنيّة تفتيش سيارته لتعثر في داخلها على متفجرات غير معدة للتفجير و500 متر من فتيل التفجير إلى جانب علم “جبهة النصرة”.

في المحصلة، تمّت “العمليّة النظيفة” بأقلّ من ثلاث دقائق، ولكنّ لم تستطع القوّة الداهمة أن تكوّن انطباعاً حقيقياً عن الشخص الماثل أمامها، والذي، لشدّة خوفه، تبوّل في ثيابه قبل أن يصل إلى مركز التحقيق، ومعترفاً (داخل السيارة) أنّه يفجّر “لأنّ حزب الله هو الذي بدأ”!

“ماذا تعطيني لأعترف؟”

المجرم الذي يُعرف بأنّه “صاحب القلب القوي” والماكر الخبيث، تغيّر. عرف المحققون سريعاً أنّ الجالس أمامهم غير صلب ولن يصمد كثيراً. وبالفعل ما إن قال له الضابط المحقّق “اعمل شيئاً لآخرتك”، حتى أجاب: “سأخبرك بما جرى”.

في حين لم يكن المحققون يريدون معرفة ماذا جرى، وإنّما جلّ ما طلبوه هو ما يخطّط له نعيم عباس، خصوصاً أن الانتحاريَّين اللذين كانا في منزله قد تواريا عن الأنظار بعد إلقاء القبض عليه، ليتبيّن لاحقاً أنهما هربا لأنّهما لم يتلقيا اتصالاً (متفقا عليه مسبقاً) من عباس يؤكّد لهما أنّهما بأمان.

في البداية، حاول “أبو خالد المقدسي” التملّص من السؤال، فعاجله المحقّق قائلاً: “لقد انتهيت، وسكوتك لا يفيدك”.

هذه كانت جملة الضغط الوحيدة التي قيلت لنعيم عباس قبل أن يستسلم وينظر إلى المحقق بهدوء ويسأله: “وماذا تعطيني؟”، فردّ الأخير: “أضمن لكَ ألا يتعرض لك أحد بالضرب، وتكون مرتاحاً”.

وبهدوء تام، طلب الإرهابي الخطير سيجارة وفنجان قهوة. وما إن صارت “الطلبيّة” أمامه، حتى أشعل سيجارته وتوجّه إلى قائد القوة بالقول: “أنت اليوم حققت أهم ضرب بحياتك.. حقّقت إنجاز عمرك”، وتابع: “في موقف السيارات الذي أوقفتني فيه يوجد سيارة من نوع “تويوتا راف فور” سوداء اللون مركونة صوب الغرب، وهي مفخخة وجاهزة للتفجير”.

وبالفعل، ضبطت السيارة وفكّكت العبوة، فيما كان الرجل غير المكترث دائماً، يسأل المحقّق عن مقابل لاعترافاته!

لم يكن باستطاعة المحقّق أن يقدّم للإرهابي “الذي وقع في الفخ” أكثر من ضمانة حماية أهله الذين يقطنون في عين الحلوة.

قَبِل نعيم عباس بالعرض، ولكنّه كان يريد المزيد: سندويش جبنة.. وإذا كان عباس قد اعترف بسيارة كورنيش المزرعة مقابل سيجارة، فإنّه كشف مقابل إعطائه “سندويش” الجبنة أنّ هناك سيارة مفخّخة آتية من عرسال!

ثم سارع إلى الإشارة بإصبعه إلى “سيم كارد” موضوع إلى جانب المضبوطات، طالباً إعطاءه إيّاه ليضعه في جهاز خلوي ويتصل بجومانة حميّد ويسألها: “أنت سافرة أم محجّبة”، فأجابت: “أنا محجّبة”، فقال لها: نلتقي بالقرب من الـ”KFC” في عاليه لنصلح السيارة. وبعد أن أقفل الخط، طلب من المحقّق إعطاءه “سيم كارد” ثانٍ ليعاود الاتصال بجومانة ويقول: “السلام عليكم”، ويقفل الخط.

حينها تعجّب المحقّق وسأله: “لماذا فعلت ذلك؟”، فردّ “إن لم اطلبها مرة ثانية، فكانت ستشعر بشيء ولا تكمل طريقها”.

وعلى هذا المنوال وبطريقة هادئة وباستخفاف، “بقّ” أخطر الإرهابيين ما في بطنه من اعترافات وارتكابات ، ليذهل المحققين، الذين تأكدوا أنّ “اصطياده” هو الإنجاز الامني الأكبر للجيش.