IMLebanon

الذهب يخسر دور الملاذ الآمن لمصلحة الدولار والسندات

DollarGold

هنري ساندرسون وديفيد شيبرد ونيل هيوم

كان مستثمرو الذهب يعلقون آمالا كبيرة على الصين، معتقدين ليس فقط أن الطبقة الوسطى الناشئة فيها من شأنها أن تكون المشتري الكبير للمعدن النفيس، لكن أيضا أن القوة العظمى الناشئة كانت تكدس بهدوء نسختها الخاصة من “فورت نوكس” في خزائن بنك الشعب الصيني في بكين.

لكن صدر إعلان في الأسبوع الماضي حطم ذلك الوهم. جاء في الإعلان أن البنك المركزي الصيني اشترى فقط 604 أطنان من الذهب خلال السنوات الست الماضية – كمية كبيرة لكنها لا تصل إلى مقدار التنبؤات التي كانت تشير إلى كمية لا تقل عن ثلاثة أضعاف هذا الحجم، كان يتنبأ بها كثيرون في السوق.

الكشف عن أن كمية الذهب التي يقتنيها الاقتصاد المتباطئ في الصين انخفضت في الواقع نسبة إلى احتياطياتها الأجنبية، أثار عمليات بيع مكثف عندما فتحت الأسواق يوم الإثنين. بالنسبة لصناديق التقاعد وأوقاف الجامعات والمدّخرين الذين اشتروا جميعا الذهب في العقد الماضي، حين كانت الأسعار تتجه نحو ألفي دولار للأونصة في عام 2011، ربما كانت تلك هي اللحظة التي خسر فيها الذهب أخيرا سحره.

في غضون دقائق كان المعدن النفيس قد ألقى تقريبا 1.7 مليار دولار من قيمته بعد افتتاح التعاملات الإلكترونية والمادية في نيويورك وشنغهاي، ما دفع بالذهب إلى أدنى مستوياته منذ خمس سنوات ليقترب من المستوى المهم نفسيا، البالغ ألف دولار للأونصة، بعد أشهر من التداول في نطاق ضيق نسبيا. وقال متداولون “إن البائعين على المكشوف كانوا يحاولون إجبار المستثمرين القلقين بشكل متزايد على الاستسلام”.

وبحسب جو وكواير، وهو مدير محفظة فيداليتي سيليكت جولد “إنهم يقولون في الأساس نحن لا نعتقد أنه يمكن للمشترين أن يتقدموا ويدافعوا عن تعاملاتهم”. ويضيف “(إنهم يقولون) نحن في طريقنا إلى إثارة الرعب في السوق”.

وكان توقيت الهجوم جيدا. فقد كان الذهب في أسوأ أحواله منذ عدة سنوات. فبعد أن سجل رقما قياسيا بلغ 1920 دولارا في عام 2011، انخفض الآن بنسبة 40 في المائة. ونصف المكاسب التي تراكمت بعد عام 1999، عندما بدأ الارتفاع انطلاقا من 250 دولارا للأونصة، اختفت تماما الآن. وينبغي لهذا العام – حسب بعض التقارير – أن يكون جيدا للذهب. لكن على الرغم من ذلك النوع من الأخبار السيئة التي من شأنها أن تعزز الذهب، بما في ذلك الأزمة اليونانية، كان هناك قليل من الاهتمام فيما يفترض أن يكون استثمار الملاذ النهائي.

ويقول ماثيو تيرنر، المحلل لدى “ماكواري” في لندن “كان الذهب هو الكلب الذي لم ينبح”. وأضاف “كان لديه دائما طبيعة مزدوجة كعملة وسلعة. (لكنه) في الوقت الحاضر لا يعتبر مرغوبا فيه في أي شكل من الأشكال”.

ويتطلع المستثمرون بدلا من ذلك إلى الدولار الأمريكي وسندات الخزانة مكانين آمنين يستطيعون إيداع الأموال فيهما، ما دفع الدولار إلى أعلى مستوى له منذ 12 عاما.

بعد عمليات بيع مكثفة يوم الإثنين من الأسبوع الماضي، لم يرتد الذهب إلى الأعلى، وإنما انزلق في نهاية المطاف في وقت معين يوم الخميس إلى أدنى مستوى له منذ خمس سنوات ونصف؛ عند 1077 دولارا. والمتداولون يتساءلون الآن ما إذا كان الذهب سينخفض مرة أخرى إلى أرقام من ثلاث خانات للمرة الأولى هذا العقد (بمعنى أن يقل سعره عن ألف دولار). الزيادة في معدلات الفائدة في الولايات المتحدة يمكن أن تقوض الطلب على المعدن، كما أنها تزيد مما يسمى “تكلفة الفرصة البديلة” للاستحواذ على حجر لامع لا يحقق إيرادا. جولدمان ساكس، أحد المصارف الأكثر تأثيرا في تداولات السلع، حذر الأسبوع الماضي من أنه يتوقع انخفاض الذهب إلى ما دون 1000 دولار للأونصة. فريدريك بانيزوتي، المصنف من قبل جمعية سوق الذهب في لندن بأنه المتنبئ الأكثر دقة في العام الماضي، يقدر أنه سيصل إلى القاع عند 950 دولارا.

ويعتقد آخرون أنه سيشهد مزيدا من الانخفاض. تقول جوليان جيسوب، من “كابيتال إيكونوميكس”، “في الوقت الذي يقود فيه الاحتياطي الفيدرالي طريق العودة نحو أسعار الفائدة الطبيعية، سعر الذهب قد يعود إلى مستويات 850 دولارا التي شهدها في نهاية عام 2007 قبل الأزمة المالية العالمية”.

بالنسبة للمدّخرين والمستثمرين الذين اشتروا الذهب، وعْد المعدن بأنه ملاذ آمن يبدو مشوها. لكن بالنسبة لصناعة تعدين الذهب، فإن التراجع يبدو حتى أكثر قتامة من ذلك: إنه يهدد وجودها في حد ذاته. ويقول مارك بريستو، الرئيس التنفيذي لشركة مناجم الذهب “راندجولد ريسورسز” المدرجة على مؤشر فاينانشال تايمز 100، “هناك ضغوط هائلة على الصناعة عند أسعار الذهب الحالية للتعامل مع هذا الأمر الآن”. ويضيف “لم تكن الصناعة مربحة منذ فترة لا بأس بها”.

بداية اندفاع الذهب على مدى 12 عاما يمكن أن تعزى إلى عملية بيع. جوردون براون، الذي تم تعيينه في ذلك الوقت وزيرا للمالية في بريطانيا، قرر في عام 1998 بيع أكثر من نصف احتياطيات الذهب في البلاد. وكان سعر المعدن في المتوسط أقل من 370 دولارا للأونصة منذ بداية العقد. ورأى براون فرصة لجمع المال الذي تشتد إليه الحاجة لتمويل حكومة يسار الوسط المنتخبة حديثا. وكان يحذو حذو بنوك مركزية أخرى كانت باعة للذهب.

وسرعان ما نشأت ظروف جعلت وزير المالية البريطاني يندم على قراره. في بداية العقد الجديد ساعدت سلسلة من الأحداث على إثارة اندفاع المعدن وصعوده لعدة سنوات. عندها اتفقت البنوك المركزية الأوروبية على الحد من مبيعات الذهب. وأطلقت مجموعة هجمات 11/9 عهدا جديدا من مشاعر اللبس في العالم. ودخلت الصين بمجموع سكانها الهائل في عملية تصنيع سريعة.

وبحلول نهاية عام 2006، مع معاناة الولايات المتحدة من عجز كبير في تمويل الصراعات في أفغانستان والعراق، تضاعفت أسعار الذهب ثلاث مرات تقريبا إلى 750 دولارا للأونصة. وفي العام التالي اخترق السعر حاجز الألف دولار للمرة الأولى على الإطلاق، حين ارتفع بنسبة 30 في المائة في ذلك العام، في الوقت الذي أخذت تتكشف فيه المراحل الأولى للأزمة المالية. وبلغ متوسط المكاسب 15 في المائة على مدى السنوات الأربع التالية إلى أن سجل المعدن رقما قياسيا بلغ 1920 دولارا في عام 2011، مدعوما أكثر من قبل من جراء أزمة منطقة اليورو وأحداث “الربيع العربي”.

وكان مئات الآلاف من صغار المستثمرين قد تهافتوا على شراء المعدن مع ظهور ما يسمى صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة، التي تتيح لسلالة جديدة من المتداولين شراء وبيع كميات صغيرة من المعدن. وقرر جون بولسون، مدير صندوق التحوط الذي حقق مليارات من خلال توقعه انهيار المساكن في الولايات المتحدة، تخصيص جزء كبير من أمواله في الذهب بدلا من الدولار، ما جعله واحدا من أكبر مالكي الذهب في العالم. وجادل بأن قرار البنوك المركزية الانخراط في التسهيل الكمي، أو “طبع النقود”، من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى انحطاط العملات الورقية والتسبب في التضخم، على غرار جمهورية فايمار.

لكن فكرة أن الذهب من شأنه أن يواصل ارتفاعه ثبت أنها مزيفة. مع مستوى عند ألفي دولار في الأفق، الذهب توقف فجأة. ثم هبط 400 دولار خلال أكثر من أسبوع بقليل في نيسان (أبريل) 2013، وهو تغير كان في العادة يحتاج إلى سنة، بعد أن قال ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، “إنه سيفعل كل ما يلزم للدفاع عن اليورو”. وقال متعاملون في البداية “إن جني الأرباح كان متوقعا”، لكن السوق لم تتمكن أبدا من التعافي التام. وعلى مدى العامين الماضيين استقر سعر الذهب في نطاق ضيق نسبيا راوح بين 1150 دولارا و1400 دولار، قبل أن يتراجع الأسبوع الماضي نحو ألف دولار للمرة الأولى منذ عام 2009.

ووفقا لجورج شيفيلي، وهو مدير محفظة استثمارية في شركة إنفيستيك لإدارة الأصول، من الصعب توقّع أين يمكن أن يكون أدنى مستوى للذهب. والسبب في ذلك هو أن الذهب ليس مثل المعادن مثل النحاس والزنك، التي لها استخدامات صناعية.

ويتابع شيفيلي الذي يدير صندوق الذهب في شركة إنفيستك جلوبال بقيمة 220 مليون دولار “مع المعادن الأخرى بإمكانك الحديث عن تكاليف الإنتاج والطلب الأساسي. لكن عندما يتعلق الأمر بالذهب، يبدو الأمر قليلاً كأنه عملة أو أحد الأسهم – إنه مدفوع بالمستثمرين. وهذا يعني أنه يمكن أن يتجاوز نطاقه الطبيعي”.

لكن عشاق الذهب يجدون الأسباب ليكونوا إيجابيين. فهم يعتقدون أن الصين ليست صادقة بشأن حجم الذهب الذي اشترته، لأنها تريد تخفيض السعر وزيادة احتياطياتها بسعر رخيص. ويُقدّر بعض المراقبين أن احتياطياتها الحقيقية أقرب إلى احتياطيات ألمانيا البالغة 3400 طن، وليس الرقم الرسمي البالغ 1658 طنا.

يقول بيتر شيف، مدير صندوق يورو باسيفيك كابيتال الاستثماري، المُتخصّص في جذب الأموال من أولئك الذين يراهنون على أن الدولار سينهار، “إن المؤمنين بالسوق الهابطة هجموا على الذهب بإصرار”. ويضيف “بمجرد أن يُدرك الناس أن الدولار ذو عيوب أكثر من الين أو اليورو، أو أي من العملات الأخرى، عندها أين يُمكنك أن تلجأ سوى إلى الذهب. الذهب سيلمع مرة أخرى”.

وسارع مجلس الذهب العالمي، مجموعة الضغط التابعة للصناعة، إلى إصدار بيان بعد موجة البيع القوية يدعي فيه أن الطلب من الناس في الصين كان لا يزال في “صحة جيدة” وأن اتجاه النمو سليم.

لكن الأدّلة على أرض الواقع أقل حسماً. اندفاع البورصة في الصين عمل على حبس السيولة من كثير من المساهمين.

يقول أحد الموظفين في واحد من أكبر المصارف المملوكة للدولة في الصين في شنغهاي، طلب أن يُدعى شين، “على مدى العام الماضي، مبيعاتنا الفعلية من الذهب في الفروع لم تكُن جيدة جداً”. ويُضيف “تعرضت أسعار الذهب إلى انخفاض كبير، بالتالي لم يأت أي من الزبائن للشراء”، مُشيراً إلى النساء في منتصف العمر اللواتي كنّ من كبار المشترين عندما سجّل السعر آخر مرة انخفاضاً كبيراً في عام 2013.

لكن عشاق الذهب غير مقتنعين وليسوا على استعداد لتغيير رأيهم: وسيط الأسهم المالية السابق، بيل هولتر ـ مقره في تكساس ـ يعتقد أنها تظل فرصة للشراء. ويقول “أستطيع إجراء حسابات سريعة وغير دقيقة على أن الصين تشترى ذهبا أكثر”، مُضيفاً أن “بيانات الواردات تدعم وجهة نظره”. كما يعتقد أيضاً أن الذهب سيحصل على لحظته مرة أخرى عندما تنخفض التراكمات الحالية من الديون في العالم.

ويقول “حسابياً، من المؤكد أن يحدث هذا، لكنها مجرد مسألة متى. فليس بإمكانك تنظيم وقت الذهب. بل تشتري فقط وتُغلق عينيك وستعرف أن الوقت إلى جانبك”.