مايكل سكابينكر
في المحكمة 23 في مجمع المحكمة العليا المكسو بألواح خشبية في هونج كونج، القاضي أندرو تشان، مرتديا شعرا مستعارا وجلبابا أحمر، يقاطع عمليات استجواب أحد الشهود، بغرض التوضيح. المتهمون الثلاثة، رجلان وامرأة، يجلسون في قفص الاتهام في الجزء الخلفي من المحكمة. وهم متهمون بالتآمر للاحتيال على مؤسسات مالية بما في ذلك بنك HSBC وبنك هانج سنج. هيئة المحلفين المؤلفة من أربعة رجال وثلاث نساء تراجع بدقة ملفات الوثائق بناء على توجيهات المحامين الذين يرتدون الثوب الأسود. الشاهد يقدم دليلا باللغة الكانتونية من خلال مترجم، لكن جميع الإجراءات الأخرى، بما في ذلك تعليمات القاضي إلى هيئة المحلفين، باللغة الإنجليزية.
يقول جوني موك، وهو محام رائد، في الواقع، إجراءات المحكمة العليا في هونج كونج كلها تقريبا باللغة الإنجليزية، حتى لو كان جميع الحاضرين من الصينيين. ويضيف خلال جلسة في أحد المقاهي الجذابة في مجمع باسيفيك بليس، المجاور للمحكمة العليا: “إنه أمر غريب إلى حد ما حين تفكر فيه، لكني أعتقد أن هذه الظاهرة لديها جانب رمزي، تماما مثل استخدام الشعر المستعار والجلباب في هونج كونج. شعوري هو أن هونج كونج ربما تكون واحدة من الولايات القضائية الأخيرة جدا حيث سيستمر استخدام الشعر المستعار والجلباب”.
وهو يرى أن هذه المظاهر أكثر من مجرد تقليد. “هناك أيضا طابع رمزي في أن مجتمع هونج كونج ككل يرغب في رؤية سيادة القانون واستقلال القضاء يجري ترسيخهما على أساس دائم”. وتمر هونج كونج بفترة سياسية تعتبر الأكثر اضطرابا منذ أن أعاد البريطانيون المنطقة إلى الصين في عام 1997. المشرعون فيها فشلوا الشهر الماضي في الموافقة على نظام من شأنه أن يسمح للمواطنين بانتخاب رئيس تنفيذي من قائمة مرشحين توافق عليها لجنة مكونة من 1200 شخص من النخبة في المدينة. في العام الماضي، احتل المتظاهرون – الذين يرمز إليهم بالمظلات التي استخدموها للدفاع عن أنفسهم ضد الغاز المسيل للدموع – أجزاء من هونج كونج لأسابيع احتجاجا على النظام الانتخابي المقترح للرئيس التنفيذي، الذين نددوا به على أنه “ديمقراطية مزيفة”.
حشد من المحتجين أثناء اعتصامهم في الوسط التجاري في هونج كونج في وقت سابق هذا العام، اعتراضا على نظام الانتخابات في الإقليم التابع للصين.
وسط هذا الغموض، يعد النظام القانوني الموروث من البريطانيين بمنزلة منارة وضمانة على أن سيادة القانون القانون ستكون محفوظة، ما يساعد على ضمان مكانة هونج كونج مركزا ماليا رائد في آسيا.
يقول ريتشارد مارغوليس، وهو دبلوماسي بريطاني سابق ساعد في التفاوض على اتفاق التسليم وبقي في هونج كونج للعمل لدى عدة شركات، بما في ذلك ميريل لينش ورولز رويس: “هذا النظام هو الأساس لكل شيء تقريبا”، مضيفا أن سيادة القانون هي “الجانب الأكثر أهمية الذي يجعل هونج كونج تختلف عن بقية الصين. هذا الأمر ليس مهما فقط من وجهة نظر الاستثمار الخارجي. بل مهم أيضا من وجهة نظر الحفاظ على الثقة بالاستثمار من قبل مجتمع الأعمال الخاص في هونج كونج. من الصعب جدا أن نبالغ في أهميته”. وأكد فرانك بون، المحامي العام في هونج كونج، على هذه النقطة في مؤتمر المحامين والمحامين العامين للشركات في الشهر الماضي، حين قال إن سيادة القانون واستقلال القضاء “يشكلان معا بيئة آمنة يمكن التنبؤ بها من قبل الأفراد والمؤسسات [و] تمكين كل شخص من فرض حقوقه والتزاماته القانونية، فضلا عن ضمان تكافؤ الفرص للشركات”، وذلك وفقا لتقرير نشر في مجلة “الأسبوع القانوني”.
تهديد وطني
على الرغم من الطمأنة التي ينطوي عليها هذا الكلام، يواجه النظام تحديات. محكمة الاستئناف النهائي، وهي أعلى محكمة في هونج كونج، أمضت سنوات في اختبار إلى أي مدى يمكنها بسط سلطتها دون إزعاج بكين. في حزيران (يونيو) من العام الماضي، شعر كثيرون في الأوساط القانونية بالغضب عندما وصف تقرير صادر عن الحكومة الصينية القضاة بأنهم “إداريون” يجب أن يكونوا وطنيين، ما أثار مظاهرة صامتة نادرة من المحامين. جاء عدم اليقين السياسي والتقويض الواضح للسلطة القضائية في وقت حرج بالنسبة لهونج كونج، مع ترويج سنغافورة لمزاياها مركزا منافسا في مجال التحكيم والمسائل القانونية.
استقلال المحاكم في هونج كونج منصوص عليه في القانون الأساسي. هذا القانون الذي اعتمده مؤتمر الشعب الوطني في الصين – البرلمان المسيطر في بكين – في عام 1990 ودخل حيز التنفيذ خلال عملية التسليم في عام 1997، يكرس مبدأ “دولة واحدة ونظامين”. والمحاكم في هونج كونج، بناء على ما يقوله هذا القانون: “تمارس سلطة قضائية مستقلة، بعيدا عن أي تدخل. والقاضي “يمكن أن يتم عزله في حالة واحدة فقط هي عدم القدرة على الوفاء بواجباته، أو لسوء السلوك” – وحتى في هذه الحالة لا يتم ذلك إلا بناء على توصية من محكمة يعينها رئيس المحكمة العليا في هونج كونج تتكون من ثلاثة قضاة محليين على الأقل.
المجالات الوحيدة التي ليس لمؤسسات هونج كونج، بما في ذلك المحاكم، حكما ذاتيا عليها هي الدفاع والشؤون الخارجية. عند الفصل في القضايا التي هي من مسؤولية الحكومة الصينية، أو تخص العلاقة بين بكين وهونج كونج، تحتاج محكمة الاستئناف النهائي إلى “السعي لتفسير الأحكام ذات الصلة من اللجنة الدائمة لمؤتمر الشعب الوطني الصيني”، وذلك وفقا لما يقوله القانون الأساسي.
واكتشفت المحكمة في وقت مبكر ما يعنيه ذلك. في قضية ظهرت بعد أقل من عامين على التسليم، حكمت المحكمة بشأن ما إذا كان ينبغي السماح للأشخاص المولودين في الصين الأم بالاستقرار في هونج كونج، إذا تأهل آباؤهم للحصول على الإقامة هناك. وقررت المحكمة أنه ينبغي السماح لهم بالاستقرار. هل كان انتقال الناس بين البر الرئيسي وهونج كونج مسألة لا بد من إحالتها إلى بكين بموجب القانون الأساسي؟ قررت المحكمة أن ذلك ليس ضروريا. ومع ذلك، تونج تشي هوا، الذي أصبح فيما بعد الرئيس التنفيذي لهونج كونج، يعتقد خلاف ذلك، وقد أحال المسألة إلى اللجنة الوطنية الدائمة لنواب الشعب الصيني، التي أكدت أن هذه مسألة بالتأكيد يجب أن يبت فيها في بكين.
إذا نظرنا إلى الوراء في هذه القضية، كما يقول يوهانس تشان، وهو أستاذ في جامعة هونج كونج ومختص في حقوق الإنسان والقانون الدستوري: “أعتقد، بطريقة ما، تحاول المحكمة اختبار المياه، في محاولة لدفع الحدود إلى أبعد مدى ممكن”.
في قضية أقيمت في عام 2011، رفعت شركة أمريكية دعوى قضائية ضد الكونغو الديمقراطية في هونج كونج. كانت محاولة لفرض قرارات تحكيم صدرت في فرنسا وسويسرا من خلال ادعاء أن المدفوعات لمجموعة السكك الحديدية الصينية كانت تقدم إلى الكونغو الديمقراطية بموجب عقد مختلف. وعندما طالبت الكونغو الديمقراطية بحصانة الدولة، قررت محكمة الاستئناف النهائي الحصول على فتوى من اللجنة الدائمة، التي أكدت أن الحكومات الأجنبية تتوافر لديها حصانة أمام المحاكم في هونج كونج، حتى في المسائل التجارية. يقول البروفيسور تشان: “أعتقد أن المحكمة لا يمكن أن تكون معيبة في تلك القضية”. ويضيف: “عندما يتعلق الأمر بالحصانة الدبلوماسية الأجنبية، من الصعب جدا أن نقول إن الصين قد لا يكون لها رأي في ذلك”.
كيف يصف العلاقة بين المحكمة والصين اليوم؟ يقول: “على العموم، أعتقد أن المحكمة تتعامل بحرص شديد مع هذا النوع من القضايا، وأنهم حساسون للتداعيات السياسية، ولكن لا أعتقد أن لهذا أثرا في حكمهم”.
المحافظة على النزاهة
اللورد نويبيرجر، رئيس المحكمة العليا في المملكة المتحدة، أصر على أن تقرير الحكومة الصينية الذي وصف القضاة بأنهم إداريون وموعظتها إزاء الوطنية القضائية لم تفعل شيئا لزعزعة استقلال المحاكم في هونج كونج. اللورد نويبيرجر – إلى جانب شخصيات قضائية بريطانية أخرى، مثل اللورد هوفمان واللورد فيليبس، وجيمس سبيجلمان، وزير العدل السابق في نيو ساوث ويلز – يعملون في محكمة الاستئناف النهائي باعتبارهم “قضاة غير دائمين” جنبا إلى جنب مع زملائهم من هونج كونج.
في العام الماضي قال اللورد نويبيرجر: “في هذه اللحظة أكتشف أنه لا يوجد أي تقويض لاستقلال القضاء. لو أنني شعرت أن استقلال السلطة القضائية في هونج كونج كان يجري تقويضه، عندها كان يتعين علي إما الاعتراض علنا وإما الاستقالة من منصب قاض”.
موك، المحامي الذي يعمل أيضا في لجنة القانون الأساسي، وهي هيئة استشارية في الصين وهونج كونج، يقول إن تعليق اللورد نويبيرجر يظهر أن رد الفعل على تقرير الحكومة الصينية مبالغ فيه. “ما يشير إليه التقرير لا يقول إن المحاكم هي إحدى الجهات الإدارية، مثل المسؤولين في الإدارة. إنها ببساطة تستخدم كلمة إدارة بمعنى أعم وأنا لا أرى البيان – وهو بيان قصير جدا، فيه إشارة وجيزة جدا إلى المحاكم – يقترب ولو من بعيد من إظهار أنه سيفعل أي شيء للإضرار باستقلال القضاء في هونج كونج”.
مع ذلك، جيفري ما، كبير القضاة في محكمة الاستئناف النهائي في هونج كونج، رد بقوة على تقرير الحكومة الصينية في محاضرة في كلية لندن للاقتصاد في شباط (فبراير). قال حينها: “عندما تكون لديك متطلبات، أو رغبة قوية في أن القضاة يجب أن يكونوا وطنيين، فأنا أقول إن هذا ليس في القانون الأساسي. ثم إنه يعتبر شاذا تماما في هذا المقام. المؤهلات الوحيدة هي الصفات المهنية والقانونية”.
وفي حين يوافق البروفيسور تشان على أنه من حيث الحفاظ على استقلاله “حتى الآن القضاء متماسك بشكل جيد”، إلا أن عدم وجود مؤسسات ديمقراطية مكتملة في هونج كونج اضطر المحاكم إلى دخول المجال السياسي. ويقول: “نظرا لعجز الديمقراطية، والكثير من القضايا التي لا يمكن حلها في الساحة السياسية (…) اضطر الناس إما إلى الذهاب إلى الشارع وإما الذهاب إلى المحكمة. وقد فعلوا الأمرين معا”.
وجعل هذا محاكم هونج كونج في وضع غريب تضطر فيه إلى الفصل في نزاعات كانت تفضل تجنبها، مثل تلك التي بين الحكومة والكنيسة حول إدارة المدارس. وقد أصدرت المحاكم أيضا أحكاما حول حرية التعبير وحرية التجمع. وعندما زادت حكومة هونج كونج فترة الإقامة التي يجب يمضيها الناس في هونج كونج قبل أن يتسنى لهم الحصول على فوائد الرعاية الاجتماعية من سنة واحدة إلى سبع، تم الاعتراض على ذلك في المحكمة. وكان البروفيسور تشان هو المحامي الذي مثل الجهة المعترضة في محكمة الاستئناف النهائي وفاز.
ورغم جميع هذه الصعوبات، يؤسس عدد متزايد من أصحاب المشاريع شركات ناشئة في هونج كونج للاستفادة من السوق الضخمة في البر الرئيسي وفي الوقت نفسه تجنب تقلبات النظام القانوني للحزب الشيوعي. آيزاك ماو، وهو مستثمر صيني في قطاع التكنولوجيا تطور شركته Aivvy سماعات متصلة بالواي فاي، يقول إن الحماية القوية لحقوق الملكية الفكرية في هونج كونج وموقفها الواضح وقانون الشركات المنفذ بشكل جيد، تشكل تناقضا صارخا مع الظروف في البر الرئيسي.
ويضيف: “هونج كونج تمنحك شعورا بكونها آمنة عند ممارسة أعمال تجارية وجمع المال فيها. مثلا، عندما ننظر إلى جمع الأموال يمكن أن نكون شفافين في تقاسم البيانات مع المستثمرين طالما أنهم يوقعون على اتفاق عدم الإفصاح، لأن الحماية القانونية تعني هنا أننا لا نقلق بشأن تسريب المعلومات”.نانسي سن، وهي شريك أول في شانغهاى في مكاتب قانون داتشنج، وهو أكبر شركة صينية ـ اندمجت في كانون الثاني (يناير) مع دنتونز، شركة المحامين في المملكة المتحدة ـ تقول إن استخدام هونج كونج للقانون العام الإنجليزي يظل أكثر أصولها قيمة. وتضيف: “لأن العالم كله لا يزال يحكمه النظام الغربي، بالتالي لدى هونج كونج ميزة”.
أعمال متنافسة
على الرغم من الاضطرابات الحالية في سوق الأسهم، لدى شنغهاي طموحات بأن تكون مركزا ماليا عالميا، لكن السيدة سن تعتقد أن نظامها القانوني لا يرقى إلى مستوى نظام هونج كونج. “لا تزال شنغهاي متخلفة عشرا إلى 20 سنة. أعتقد أن هونج كونج أكثر انفتاحا. وهي أكثر ديمقراطية، رغم أنه في الصين تستمع الحكومة إلى الشعب بصورة متزايدة باستمرار”.
يقول بيتر يوين، وهو محام في هونج كونج لدى “فانجدا بارتنرز”، وهي شركة قانونية أخرى صينية في البر الرئيسي: “تستخدم الأطراف التجارية في هذا الجزء من العالم، ولا سيما في المعاملات المتعلقة بالصين، قانون هونج كونج للعقود وتستخدم محاكم هونج كونج”. وفي حين تحسنت نوعية المحاكم في الصين الشعبية بشكل هائل، يقول يوين: “لا يمكنك الهروب من حقيقة أنها نظام حزب واحد. لا يمكنني أن أرى أبدا مدينة أخرى في الصين تحل محل هونج كونج تماما”.
أما سنغافورة فهي مسألة أخرى. مثل هونج كونج، تعتبر سلطة قضائية تعتمد على القانون العام، مع وجود قضاة ومحامين يتحدثون اللغة الإنجليزية. إنها تعرض نفسها مركزا للتحكيم والوساطة. وبالفعل ازدادت القضايا الجديدة التي يتعامل معها مركز التحكيم الدولي في سنغافورة من 64 قضية في عام 2003 إلى 259 قضية في عام 2013. وفي كانون الثاني (يناير) الماضي افتتحت سنغافورة “محكمة سنغافورة التجارية الدولية” لتكون “مكانا محايدا لحل المنازعات بين الأطراف من مختلف الولايات القضائية”. ويترأس هذه المحكمة الجديدة قضاة من سنغافورة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا وهونج كونج، وكذلك من ولايات قضائية لا تأخذ بالقانون العام، مثل فرنسا والنمسا واليابان.
ويجادل يوين قائلا إن الكثير من الحديث عن تحدي سنغافورة لهونج كونج هو كلام مبالغ فيه. ويقول: “كل منهما لها ميزاتها الخاصة بها”.
ففي حين أن سنغافورة جذابة لتسوية النزاعات بين الشركات من بلدان مختلفة، تراوح من الهند إلى الشرق الأوسط، إلا أن هونج كونج تبقى المكان القانوني المفضل بالنسبة للشركات التي محورها الصين. مع ذلك، يعتقد كثير من المحامين أن اضطراب هونج كونج السياسي منح دفعة قوية لسنغافورة التي ـ حتى بعد موت الأب المؤسس، لي كوان يو، في وقت سابق هذا العام ـ تبقى خاضعة لسيطرة حزب العمل الشعبي.
ستيوارت فولر، الشريك الإداري العالمي في “كينج آند وود ماليسونز”، وهي شركة محاماة مقرها الرئيسي في آسيا، قال إنه كان ملحوظا كيف روجت سنغافورة نفسها خلال اضطرابات هونج كونج الأخيرة. “أظهرت سنغافورة نفسها باعتبارها مكانا أكثر قابلية للتنبؤ”. السيدة سن توافق، وتقول: “سنغافورة تملك فرصة جيدة جدا الآن في الوقت الذي نجد فيه أن سياسات هونج كونج ليست مستقرة جدا”.
مع رفض أسلوب بكين المفضل لانتخاب الرئيس التنفيذي، تظهر سياسات هونج كونج دلائل قليلة على استعادة توازنها. وسيعتمد شعبها، أكثر من أي وقت مضى، على قضاة هونج كونج الغارقين في تقليدهم القائم على الاستقلال والحياد، لتوفير الاستقرار اللازم لاستمرار ازدهارهم.