Site icon IMLebanon

مستقبل المصارف المركزية والتحديات المقبلة

CentralBanks

بروفسور غريتا صعب

قد تكون أولويات المصارف المركزية بعد الأزمة المالية العالمية تتلخّص بنقاط لا بد من التركيز عليها من استقرار مالي وتعزيز الحكم الرشيد governance وزيادة القدرة على التأثير. وأثبتت الأزمة الحالية تباعداً مهماً بين آراء المصارف المركزية حول دور كل منها في معالجة الأزمة والتعاطي معها، يُبرز تباين المسارات الاقتصادات الرئيسية وتحديات تحقيق اهداف التضخم.

وقد يكون الاختلاف في التركيز يعكس الظروف الحالية في اقتصادات الدول المتقدمة حيث نرى الولايات المتحدة مع سوق عمل مَرن ومتحرك ونسبة بطالة تدنّت حتى بلغت ٥,٤ بالمئة بينما الحال اقلّ تفاؤلاً في اوروبا حيث نسَب البطالة ما زالت بمستويات عالية نسبياً.

وهذا التفاوت في الآراء بَدا واضحاً في آخر اجتماع جرى في منتدى سينترا البرتغال، حيث دافع دراغي عن دعوته لتكثيف الاصلاحات الاقتصادية في اوروبا التي ما زالت تواجه ركوداً منذ العام ٢٠٠٩ ونسَب بطالة اعلى بكثير منها في الولايات المتحدة واليابان، مشيراً الى اهمية التناغم بين دول الـ ١٩ في منطقة اليورو.

وفي المقابل، حضّ نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيديرالي ستانلي فيشر على اتّباع نهج اكثر حذراً على رغم انه اوضح انّ الاقتصاد الاميركي سوف يستفيد من زيادة الانفاق على البنية التحتية. وفي نفس السياق تحدث هارو هيكو كردودا حاكم مصرف اليابان، فأشار الى انّ السياسة النقدية يمكن ان تسهّل على الحكومات ادخال الاصلاحات بجَعل اقتصاداتها اكثر مرونة.

امّا فيما يتعلق بالمسار الحالي فالجميع يعلم انّ هنالك تبايناً كبيراً في السياسات الاقتصادية لهذه الدول، فبينما يتوقع ان يبدأ الاحتياطي الفيدرالي برفع اسعار الفوائد قريباً نرى البنك المركزي الاوروبي وبنك اليابان ما زالا يشرعان بشراء كميات كبيرة من السندات الحكومية من خلال عملية التسيير الكمّي التي اتبعتها اميركا ولفترة طويلة، لكنها وللعلم انتهت منها حالياً.

وهذه العملية تبقى حسب فيشرغير عادية وتؤثر على المدّخرين. لذلك، وبالمطلق نرى انه ولغايته تبقى الآراء متفاوتة والسياسات النقدية غير متوازية وما بَدا ذات منفعة في اميركا قد لا يلقى نفس النتائج في اوروبا واليابان.

لذلك، الفوارق ما زالت كبيرة ولا يوجد معايير محددة يمكن اتّباعها للخروج من الأزمة، انما وَجب على المصارف المركزية ان تعمل وفق استراتيجية الاستقرار المالي من خلال تحليل للاقتصاد الكلي وتحديد مواطن الضعف وتقييم السياسات الواجب اتّباعها، وهذه وظائف المصارف المركزية الأساسية والتي تختلف بين الاتحاد الاوروبي واميركا، لا سيما انّ المصارف المركزية تؤدي في اوروبا دوراً بارزاً في التشخيص واكثر محدوداً في التنفيذ، إذ انّ الـ (ESRB (European systemic risk Broad يتولى ادارة عملية تحديد المخاطر النظامية وتحديد الوسائل في تخفيف حدتها، غير انه لا يمارس السلطة مباشرة على اي من ادوات السياسة العامّة، بل يكتفي بإصدار التوصيات والتحذير.

والوضع يختلف في اميركا حيث وحسب Dodd Frank act يلعب المركزي دوراً مختلفاً ويستخدم صلاحيات الاشراف ويواصل القيام بدور هام في تنفيذ السياسة العامة. هذه جملة فوارق بين المصارف المركزية في الاقتصادات المتقدمة، انما يبقى القول انّ الاستقرار المالي يتطلّب تغييرات هامة في هيكل المصرف المركزي ومزيداً من التفاعل مع الحكومات على نحو يوفر الاستقلالية اللازمة للبنك المركزي لتحقيق اهدافه.

وتعطي تركيا درساً تحذيرياً في هذا الصدد، لا سيما انّ طريقة التعاطي مع المركزي التركي لخفض اسعار الفوائد دفعت المستثمرين الى تحويل اموالهم خارج البلاد، خصوصاً انّ السياسيين فيه يحاولون سَلب المركزي قرارات هامة لا سيما في ما يتعلق بتكاليف الاقتراض.

كذلك، وفي الصدد نفسه جاءت تحذيرات المركزي الاوروبي للرئيس القبرصي من زَجّ السياسة في استقلالية البنك المركزي القبرصي، وأوضح دراغي للرئيس القبرصي انه لن يسمح بأن تكون استقلالية المركزي القبرصي رهينة لعبة السياسيين.

وقد يكون التدخّل السياسي اللبناني مع البنك المركزي محدوداً بعد فترة الـ ٢٠٠٥، وبالتحديد بعد العام 2002 ولعدة امور أهمّها عدم قدرة السياسيين على الدخول في اللعبة الاقتصادية إمّا لإدراكهم اهميتها على الاقتصاد اللبناني (مع التحفّظ) أو لعدم قدرتهم على الدخول بلعبة تتخطى مفاهيمهم الاقتصادية.

(وقد يكون هذا التفسير هو الأرجح) لا سيما وانه في العام ٢٠١١ حاولوا إدخال السياسة في لعبة المراهنة على الدولار، لكنهم فشلوا نتيجة تدخّل البنك المركزي، فباءت محاولتهم بالفشل. وهكذا نرى انّ ما كانت عليه المصارف المركزية في الماضي من سياسة تقليدية اتّبعوها لم تعد صالحة اليوم، والخطأ يكمن في عدم وجود قواعد اقتصادية معينة لتحقيق الاستقرار المالي والنقدي وكبح التضخّم وتشجيع الاقتراض وتحفيز النمو.

وما بدأ عام ٢٠٠٩ مع سياسات مالية غير تقليدية لن يستطيع ان يبني قواعد محددة تسير فيها المصارف المركزية لتحقيق هذه الغاية، وقد يكون تركيز العديد من الاقتصاديين على استنهاض الاقتصاد من خلال زيادة الانفاق والناتج نهج سليم ويؤدي الى نتائج مماثلة ويعطي البنك المركزي هامشاً اكبر في مكافحة البطالة خلال فترة الركود الحاد.

ويبقى القول وحسب العديد من النقاد انّ المصارف المركزية قد تكون فعلت الكثير لكنها أجّجت في الوقت نفسه عدم استقرار مالي من خلال سياسات مالية متفاوتة.