يطوي العام الأوّل لانتهاء المواجهة البطولية في عرسال صفحاته، بعدما خاض الجيش معارك ضارية وقاتلَ بشكل مستميت دفاعاً عن حدود الوطن، وقدّم الدمَ والشهداء والتضحيات ثمناً لدحرِ الإرهاب والقضاء على الإرهابيين، مكلّلاً اللبنانيين بمجد الانتصار والكرامة. خفتَ صوت الرصاص، ما عادت الأصابع على الزناد، إلّا أنّ معركة استرجاع العسكريين المخطوفين لم تطو فصولها بعد.
365 يوماً وأهالي العسكريين المخطوفين يصرخون: «وينُن؟ وين صواتُن؟ وين وجوهن؟» بُحَّت حناجرهم وما خفتَت مطالبتُهم ولا همدت عزيمتهم، وإنْ غصَّت أصواتهم ارتفعت تحرّكاتهم. فإذا انطفأ الحديث عن أزمة أبنائهم المخطوفين، أشعَلوا من نار غضبهم الإطارات… إسودَّت أياديهم ولم تسوَدّ الأيام في عيونهم، إيمانهم بمن تحدّى الإرهاب كإيمان حبّة الخردل التي تنقل الجبال…
«مَن سيدفع الثمن؟»
إنتهجَت الجهة الخاطفة لغة حرقِ الأعصاب مع الأهالي، عبر بثّ صوَر لأبنائهم وفيديوهات على حساباتها الإلكترونية الخاصة. أبرزُ تلك اللقطات: العسكريون المخطوفون مرميّون أرضاً وخلفَهم مسلّحون يصَوِّبون السلاح على صدورهم، مرفقةً بعبارة «مَن سيدفع الثمن؟».
هذا السؤال قضَّ مضاجعَ الأهالي، حرَم جفونَهم النوم وسبَّبَ للعدد الأكبر منهم مشكلات صحّية، من أزمات قلبية، ضغط، سكّري… وأبعد من حرقِ الأعصاب، تلاعَب الخاطفون بالأهالي مراراً كورقةٍ لتحقيق مطالبهم، بتحريكهم في مواعيد محدّدة… فصورة السكّين على عنق علي البزّال مرفقةً بعبارة «ثماني ساعات فاصلة بين إطلاق جمانة حميد أو قتل البزّال»، رَفعت منسوب الضغط في صفوف الأهالي الذين عَمدوا إلى شراء الوقت على أكثر من جبهة. إلّا أنّ تفاؤلهم لم يدُم بتأجيل إعدام البزّال الذي انضمَّ إلى رفاقه الشهداء علي قاسم علي، علي السيّد، محمد حمية، عبّاس مدلج.
قطعُ طرُق ونصبُ خيَم
حيال الحرب النفسية التي خاضها الأهالي، عجزوا عن تمالكِ أعصابهم والسيطرة على انفعالاتهم. فكما الطيور التي ترقص مذبوحةً من شدّة الألم، تحرّكوا قاطعين عدداً من الطرق والمداخل بالإطارات المشتعلة، من ترشيش، فالوغا، ضهر البيدر، البزّالية، عكّار… أمّا التحرّك الأكبر فكان عند تقاطع الصيفي، حيث قطعوا مراراً مداخل العاصمة بأجسادهم لساعات، وخوفاً من تعامل المسؤولين مع ملفّ أبنائهم، «بعِيد عن العين، بعِيد عن القلب»، تخلّى الأهالي عن منازلهم ونصبوا الخيَم في قلب العاصمة بيروت أمام السراي وتحت ناظرَي تمثال رياض الصلح.
هناك طافَ أبناء العسكريين المخطوفين، بعضُهم أبصرَ النور في الخيمة وترعرع، وآخرون استعدّوا لامتحاناتهم الرسمية ونجحوا، دقائقَ فرحوا، ولياليَ ناموا والدموع في عيونهم شوقاً للمحِ طيف أحبّائهم العسكريين. في الخيَم ذابَت قلوبُ الأمّهات اللواتي صمنَ من دون أن يفطرن على خبر يُعيد الدمَ إلى عروقهم…
زيارات «بترِد الروح»
في وقتٍ لم ينعم أهالي العسكريين المخطوفين لدى «داعش» بزيارة أبنائهم في العيد، حظيَ أهالي المخطوفين لدى «جبهة النصرة» بلقاءات دورية طوال السَنة، غالباً ما كانت تبدأ بزيارة للشيخ مصطفى الحجيري «أبو طاقية» في منزله في عرسال ليرافقَهم في «اليوكن» باتّجاه الجرود. وآخر هذه الزيارات دعوة أمير «النصرة» في القلمون «أبو مالك التلي» الأهالي إلى محيط بلدة عرسال للقاء أبنائهم بمناسبة عيد الفطر.
معظم المرّات كانت تُبلَّغ العائلة بالموافقة على زيارة إبنها قبل ساعات معدودة من الموعد المحدّد وسط تكتّم شديد، فلا يعلَن عن حصول اللقاء إلّا خلال عودة أفراد العائلة. لا شكّ في أنّ رؤية العسكريين أحياءَ يرزَقون زادت الأهالي تشبُّثاً بموقفهم، إلّا أنّها في الوقت عينه حرّكت جمرَ شوقهم لدى عودتهم إلى رياض الصلح وذكّرتهم بظروف الأسر القاسية التي يمضيها العسكريون، سواءٌ في الشتاء أو في الصيف. فوالدة خالد مقبل حسن لم تتردّد في محاولة إضرام النار بجسدِها حزناً وغضباً من استمرار الخطف.
زيارات مكّوكية… والنتيجة؟
حرصَ الأهالي تزامُناً مع تحرّكاتهم التصعيدية، على القيام بزيارات رسمية مكّوكية، من سفارات إلى أقطاب سياسية، حزبية (الكتائب، التيار الوطني الحر، المرَدة، القوات اللبنانية، حزب الله، المستقبل…)، مؤثّرة في الملف.
«إستطعنا للمرّة الأولى بتاريخ لبنان أخذَ كلمةِ دعم من كلّ فريق، وهذا إنجاز، شعرنا آنذاك فعلاً بوجود ملف العسكريين وتشكيل خليّة أزمة، وتسَلّمَ اللواء عباس إبراهيم زمامَ التفاوض»، يقول رئيس لجنة أهالي العسكريين حسين يوسف لـ«الجمهورية»، موضحاً: «صحيح أنّنا لم نصل إلى إطلاق أبنائنا، ولكن ربّما لولا تحرّكنا لكُنّا خسرنا نصفَ الشباب».
عامٌ يَطوي صفحته، من دون تسجيل أيّ خلاف يُذكر بين الأهالي، على رغم تنَوّع آرائهم وتفاوت مواقفِهم، يسأل يوسف: «أين الغريب في الأمر؟ حبّ الوطن جَمعنا، وراية الأرزة الخضراء وحَّدتنا، للمطالبة بجميع المخطوفين على حدٍّ سواء. المؤسف أنّ اللبنانيين لا يتوحّدون إلّا في وقت الشدّة، وقد تبيّنَ لنا أنّ الطوائف في طبيعتها موحّدة، محِبّة، ولكنّ السياسة هي التي تفرّقها».
وسط تخَبّط الأهالي مع الأقاويل والتهديدات، وقد زادت حدّتَها مطالبُ الجهة الخاطفة المتبدّلة، وآخرُها: «إطلاق سجى الدليمي وجمانة حميّد من سجن
رومية، وتأمين ممرّ آمن للمهجّرين السوريّين في المخيّمات لينتقلوا إلى بلدة فليطة السورية».
والنتيجة؟ يجيب يوسف: «صحيح أنّ الأهالي تبلّغوا خلال زيارتهم الأخيرة لأبنائهم خبرَ توقّف المفاوضات وأنّ الدولة تكذب على الخاطفين. إلّا أنّنا منذ عام نعيش صراعاً من الأقاويل. نحاول خلقَ أملٍ ما نتمسّك به، لنمضيَ قدُماً في مسيرة المطالبة بأبنائنا، وإعادتهم بأيّ طريقة».
«بغيابكُن ما في عيد»
عشيّة عيد الجيش، يَطوي الأهالي العام الأوّل على مسيرتهم النضالية في مطالبتهم باسترجاع أبنائهم المخطوفين، وقد تواعدوا للتجمُّع وإضاءة الشموع في هذه المناسبة، تحت عنوان «بغيابكُن ما في عيد»، وذلك عند السابعة من مساء السبت 1 آب في رياض الصلح، على أملِ رجوع أحبابِهم العسكريين سالمين.
فهل يطل عيد الجيش بأمل جديد يُعيد الأبطال إلى حضن الوطن؟