تعقد دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) قمتها السابعة في مدينة أوفا الروسية الواقعة بمنطقة الفولغا. ويجتمع قادة هذه الدول لاستكمال مشاوراتهم وتنسيقهم بخصوص إقامة تكتل اقتصادي قوي يثبت جدارته على الساحة الدولية، وإقامة نظام مالي مواز لنظام مالي تفرضه الدول الاستعمارية الغربية على العالم على مدى عقود طويلة.
وللدول المشاركة في هذا التكتل وزن كبير على الساحة الدولية، إذ تضم ثلاثة مليارات نسمة أو حوالي 40% من سكان العالم، ومجمل ناتجها المحلي الإجمالي يناهز 16 تريليون دولار، أي 20% من حجم الاقتصاد العالمي، وتمتلك حوالي أربعة تريليونات دولار من الاحتياطيات النقدية الأجنبية، وهي جميعا أعضاء في مجموعة العشرين. وتشكل دول بريكس ربع مساحة العالم تقريبا، وهي الدول الأسرع نموا من الناحية الاقتصادية في العالم.
ومن الناحية العسكرية فإن ثلاثا من الدول الخمس هي قوى نووية، والدولتان الباقيتان -وهما البرازيل وجنوب أفريقيا- تملكان قدرات نووية.
وقد تأسست مجموعة بريكس عام 2009 إثر اجتماع زعماء الدول المذكورة ما عدا جنوب أفريقيا التي انضمت لاحقا، وإعلانها نيتها إقامة نظام عالمي ثنائي القطبية. وقد أعلنت الدول عدة مبادئ منها: عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وترسيخ قيم المساواة على المستوى العالمي، وإنجاز المصالح المتبادلة، وأعربت عن توجهها نحو كسر القطبية الأحادية التي قامت على الساحة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أميركا تنتج خصومها
كثيرون في العالم ينتظرون نهوض مجموعة بريكس وبروزها كثقل اقتصادي وعسكري كبير على المستوى العالمي، عسى أن يخفف ذلك من السطوة الأميركية على شعوب الأرض ودولهم. فقد ولدت سياسات الولايات المتحدة استياء كبيرا لدى العديد من الشعوب -ومنها الشعوب الأوروبية- بسبب سياسات الهيمنة والتهميش التي تتبناها.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة تعمل على إخضاع دول العالم وتسييرها وفق الإرادة الأميركية. ظنت شعوب الأرض أن أميركا ستعمل على إنهاء الاستعمار في العالم فآزروها في سياساتها ضد الاستعمار التقليدي الذي كان متمثلا بصورة كبيرة في بريطانيا وفرنسا.
لكن شعوب الأرض رأت أن أميركا لم تقف ضد الاستعمار من ناحية المبدأ، وإنما لكي تصبح هي القوة المهيمنة الأولى. وقد تجلى ذلك في السياسة الإمبريالية، وهي الدرجة الاستعمارية الأرقى من الاستعمار التقليدي، والتي بدأت تتبعها في كل أنحاء العالم. لم تكن أميركا مهتمة بإرسال جنودها ليستعمروا الأوطان والشعوب، بل عمدت إلى ممارسة الاستعمار عن بعد عبر قادة محليين كانوا في الغالب من صناعتها.
وتطور السلوك الأميركي لتصبح واشنطن القرصان الأكبر، أو لتكون ذلك “الأزعر والبلطجي” الذي يحمل أسلحته على ظهره ويطوف العالم مهددا ومتوعدا. وقد تمادت أميركا كثيرا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعلن صراحة أنها تعمل على تحويل العالم إلى أميركيين ثقافيا وتربويا.
وبدل ممارسة الإمبريالية أخذت أميركا تنشر فكرها الرأسمالي الليبرالي وديمقراطيتها عبر المنظمات غير الحكومية التي أنشأتها ليصبح العالم مستعبدا من قبل أميركا بالتربية والثقافة.
وعليه لم تتوان أميركا في حصار دول وفرض عقوبات عليها مثل ليبيا وإيران والعراق وسوريا، وقررت استعمال قوتها العسكرية مباشرة في ميادين الحرب، فأهلكت فيتنام وغزت الدومينيك وبنما ثم تحولت إلى المنطقة العربية الإسلامية تعيث فيها الفساد. وشنت حربا على أفغانستان ومن ثم على العراق، وهي لا تتوقف عن تمويل وتسليح الفتن الداخلية في الوطن العربي.
وتحت عنوان الحرب على الإرهاب أجازت أميركا لنفسها التطاول على الشعوب والدول إلى درجة أنها تطاولت على روسيا والصين.
فشلت أميركا في النهاية في حروبها جميعا، وبخاصة الحرب على الإرهاب التي أدت إلى انتشار الإرهاب في كل مكان. وأدت غطرستها الزائدة عن حدها إلى سعي الدول لإنقاذ نفسها من براثن الهيمنة الأميركية، فكانت دول بريكس وكان الإرهاب.
استفزت أميركا الشعوب والدول، وبدل أن يتقلص الإرهاب أخذ ينتشر كالسرطان في المنطقة العربية الإسلامية بدعم من الدول الغربية ومن والاها من دول المنطقة، وبدل أن تبقى هي القطب الواحد المهيمن، برزت بريكس لتقول لا، فهذا عالم متعدد الأقطاب ويجب ألا تبقى القوة حكرا على أحد.
لا للحروب الباردة والساخنة
دول بريكس ليست معنية بالدخول في حرب باردة أو ساخنة مع الولايات المتحدة أو مع الدول الغربية عموما، فهي ليست منظمة عسكرية ولا يوجد لديها أطماع للهيمنة على العالم أو شن حروب على أحد. ولهذا لن تكترث بالتنازع مع أميركا على سطوة أو سيطرة، وتفضل التفاهم معها على أساس حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وحل المسائل الخلافية في كل أنحاء العالم بالحوار وليس بالحصار والضغط والإرهاب.
أي أن الحرب الباردة لن تعود، كما أن الحروب المحلية التي يقوم بها أبناء الشعوب المتخاصمة لن تكون هدفا إستراتيجيا لبريكس. لكن هذا لا يعني أن دول التكتل ستستكين لضعف عسكري لأنها لا تأمن جانب الطرف الآخر وهو الولايات المتحدة بالتحديد. ستستمر دول بريكس -لاسيما روسيا والصين- في تطوير قدراتها العسكرية، ومن المحتمل أن تدخل البرازيل ميدان إنتاج القنبلة النووية.
إذا كانت دول بريكس لا تؤمن بالحروب فإن ذلك لا يعني إرخاء الحبل للولايات المتحدة للاستمرار في صلفها وعنفها، بل سيكون لدول المجموعة مواقف واضحة من مختلف الأزمات العالمية، وستحاول أن تكون ندا للولايات المتحدة وخاصة في أروقة الأمم المتحدة.
عانت الأمم المتحدة طويلا من هيمنة الولايات المتحدة، ولم تكن الدول تجرؤ على تحدي الإرادة الأميركية، أما الآن فظهرت روسيا والصين قوتين يمكن أن تؤثرا على مفعول واشنطن في مجلس الأمن، وسبق للدولتين أن استعملتا حق النقض بخصوص سوريا رغم المعارضة الأميركية.
القوة الاقتصادية
تركز دول بريكس في مؤتمراتها على تطوير القدرات الاقتصادية للدول الأعضاء، إدراكا منها أن القوة الاقتصادية الآن هي التي تطغى على القوة العسكرية في العالم. ومن المعروف أن هذه المجموعة من الدول تحقق سنويا نموا اقتصاديا كبيرا يفوق النمو الذي تحققه الدول الغربية.
فاقتصاد هذه الدول ينمو ويتطور بصورة سريعة بحيث إنه من الوارد تماما -وفق الخبراء الاقتصاديين في العالم- أن تتصدر بريكس قوائم الدول الصناعية، وستتفوق على أميركا وألمانيا واليابان بحلول العام 2035. وهي دول لا تركز فقط على الاستثمار الداخلي، وإنما تتمدد خارج حدودها لتنفذ مشاريع استثمارية ضخمة في أنحاء العالم وخاصة في أفريقيا.
ومن المتوقع أن تكون المئوية الأولى من القرن الحادي والعشرين قرن الاقتصاد الأفريقي. وتضخ دول بريكس كميات ضخمة من الأموال في الدول الأفريقية، وهي -كالدول الأفريقية- تحقق أرباحا طائلة ستزداد مع الزمن.
بنك التنمية
من أجل تطوير أدواتها لتسريع الاستثمار أنشأت بريكس بنك التنمية في شنغهاي بالصين، ووزعت مهام الإدارة والرقابة والتمويل عليها جميعا، ووضعت نظاما للبنك لا يسمح بهيمنة دولة معينة عليه، وذلك من خلال تقييد المساهمات في رأسمال البنك. ويعتبر البنك أداة ممتازة من أدوات تسهيل التمويل ونقل الأموال ومراقبة المشاريع والسهر على تطورها الميداني.
وفي هذا ما سينافس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يشكلان عصب الهيمنة المالية الأميركية على أغلب دول العالم الفقيرة، أي أن بنك التنمية سينافس بقوة أدوات الاستعمار الغربي، وأدوات العولمة الأميركية التي أخذ نفوذها في التقلص.
رأسمال البنك يبلغ مئة مليار دولار وهناك احتياطي نقدي يبلغ مئة مليار دولار أيضا، أي أن رأسماله قوي ويمكن أن ينافس الأموال الغربية. وسيساعد هذا البنك دول الجنوب أو الدول المتخلفة اقتصاديا، وسيساعد دون شروط سياسية تنتقص من سيادة الدول، ولن تكون له شروط رأسمالية كما يفعل البنك الدولي.
وستنحصر شروط بنك التنمية في الأداء الاستثماري المهني القائم على أسس علمية والخالي من الفساد ما أمكن. لقد استعملت أميركا صندوق النقد والبنك الدوليين لإخضاع الدول لشروطها الرأسمالية مثل خصخصة المنشآت العامة، ورفع الدعم المالي عن الفقراء، ورفع الضرائب وفتح الأسواق أمام المنتجات الأجنبية.
أما دول بريكس فغير معنية بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهي ليست معنية بتصدير أفكارها وثقافاتها لأحد، أي أن دول التكتل ستستعمل البنك لترسيخ فكرة العالمية، وليس العولمة بحيث تفتح الأبواب أمام التبادل الثقافي بين الأمم والتعاون.
المشوار طويل
إن الولايات المتحدة دولة قوية عسكريا واقتصاديا لكنها متضعضعة أخلاقيا. وعلينا دائما أن نأخذ احتياطات واسعة خشية أعمال الأقوياء عسكريا والضعفاء أخلاقيا، إذ إنه لا يؤمن شرهم. هل ستساعد بريكس العالم على العيش بطمأنينة وأمان وسلام؟ ضمن طروحات دول التكتل الآن الجواب هو نعم.
لكن على العالم ألا يتوقع تغييرات سريعة على الجو السياسي والأمني العالمي، إذ ما زالت أميركا ذات نفوذ واسع وتأثير كبير، وهي ما زالت تقف على رأس سلم القادرين في العالم. أما دول بريكس فلم تبدأ بعد، وهي بحاجة إلى سنوات حتى تصبح سياساتها واضحة المعالم، ويصبح تأثيرها ملموسا على الساحة العالمية.
وسيلمس المتتبعون تأثير بريكس سنة تلو أخرى، وستزداد أعداد الدول التي ترغب في المساهمة في بنك التنمية، وهذا يعني أن قدرات الأخير التمويلية ستتطور بالمزيد، وسيشعر العالم بتقلص نفوذ أميركا الاقتصادي أمام العمالقة الآسيويين.
إيران والعرب
إن إيران مقربة جدا من دول بريكس وقادتها موجودون في الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة بدول التكتل، وهي تعتبر رأس حربة في مواجهة النفوذ الأميركي في المنطقة. أما العرب فلا يبدو أنهم مهتمون بالتطورات العالمية التي ستنتهي بعالم متعدد الأقطاب، فهم مرتاحون لبقائهم تحت الهيمنة الأميركية، ولا يبدو أنهم حريصون على تحقيق استقلال أو سيادة حقيقية. الأمة العربية بخير ما دام الزعيم بخير.