“صباح الخير يا بابا”، يقف حسين، ابن السنة والشهرين، أمام صورة والده الجندي المخطوف عند “داعش” ليصبّح عليه، ثم ينصرف إلى يومه.
مساء، وحين تحين ساعة نومه، يترك ابن السنة وشهرين ألعابه وكل الموجودين، ليقصد الصورة عينها. يقبل رأس محمد، والده المخطوف منذ عام بالتمام والكمال، ثم يخلد إلى النوم بعد أن يهمس “تصبح على خير يا بابا”.
لم يكن حسين قد أنهى الشهرين من عمره عندما خطف والده في “غزوة آب” 2014 في عرسال. لم يكتب له، كما أطفال العسكريين الآخرين المخطوفين عند “داعش” و “النصرة”، أن يكبر على يدي والده. لم يحمله بين كفيه كلعبة ويقذفه في الهواء ثم يلتقطه فرحاً بضحكاته أو حتى بنظرات خوفه.
عام على الغياب يحل اليوم بالذات. غياب العسكريين المخطوفين الذين خرجوا في 2 آب الماضي للقيام بواجبهم في خدمة الوطن. 365 يوماً لم تكن ولن تكون تفصيلاً في حياتهم وحياة عائلاتهم. الأمهات، الآباء، الزوجات والأطفال والأخوة والأخوات. عام مرّ من دونهم بنهاراته ولياليه. عام أصيبت فيه معظم أمهات وأباء الجنود بمرض الضغط أو القلب، ليس فقط على وقع انتظارهم وإنما حالات إعدام البعض من بينهم بأبشع الطرق. بعضهم يعجز حتى عن مغادرة منزله. ومنهم من لم يتمكنوا من الذهاب لرؤية فلذات أكبادهم حتى عندما سنحت لهم الفرصة بذلك.
الحياة قبل 2 آب 2014 لم تعد كما بعدها. دموع الأمهات التي لا تجف. الأطفال لا يكفون عن السؤال عن آبائهم. الزوجات التزمن منازلهن بانتظار من وعدوهن بكل شيء، إلا بما حصل، لم يقولوا أنهم سيتركونهن وحيدات قابضات ليس فقط على مسؤولية تنشئة العائلة، وإنما على جمر الانتظار اليومي المرعب لما سيؤول إليه مصيرهم.
ومع الآباء، يبقى الجنود على مدار اليوم. إسأل حسين يوسف، والد الجندي محمد يوسف، الذي يسكن إحدى خيم أهالي العسكريين منذ عشرة أشهر، وما بدل تبديلا. عندما تسأل حسين يوسف عمن يبقى معه في خيمته يجيبك تلقائياً “محمد”، مضيفاً “هو لا يتركني لحظة واحدة، حتى أنه يمشي معي في وسط البلد حين يعصى النوم وتطول ليالي الانتظار.
قبل خيمة ساحة رياض الصلح حيث نصب أهالي العسكريين خيمهم إلى حين الإفراج عن أبنائهم، سكن حسين يوسف الطريق “كنا في الاعتصامات”. خسر وظيفته، توقفت حياته، وتلفح خيمة سمرها في المكان الذي يصل المجلس النيابي والسرايا الحكومية في الوقت عينه.
غصة حسين يوسف، ومعها غصات عائلات المخطوفين عند “داعش” لا يوجد مرادفات يمكن ان نصفها بها، كما يقول “نحن لا نملك معلومة واحدة عنهم وليس فقط أننا لم نرهم منذ عشرة أشهر”. فترة كانت كافية لكي يضعف “نعم ضعفت”، يقول حسين. “كانت دمعتي عصية” كما قال عن نفسه، “اليوم أراها على طرف جفني تكرج لمجرد أن أفكر فيه”. ومع ذلك هو لا يفكر بنفسه “أفكر بأم محمد، وجع الأم أقسى من كل الأوجاع في العالم”.
حسين الصغير الذي أسماه محمد على اسم والده هو “السلوى الوحيدة في غيابه”. يقول حسين إنه “شبه أبيه تماماً وهو بعمره، الضحكة نفسها، طريقة المشي، حـتى أســنانه نبتت في الفترة نفسها”. ولذا تحرص العائلة أن تحمل حســين الصغير إلى الخيمة في رياض الصلح. هناك يمســك حســين الجد، بيد حفيده ويسير معه على الأرصــفة “بيرافقه متل ما كان بييه رفيقي، وبيراقبه عم يكبر، عم نكبر سوا نحن وناطرينه”.
بانتظار “رفيق العمر”
قبل عام من اليوم، وبالتحديد عند الرابعة من بعد ظهر 2 آب الماضي، كانت ثروت مزاحم، والدة الدركي المخطوف لامع مزاحم، تأخذ قيلولتها عندما شعرت به فوق رأسها يناديها. يومها كان لامع سيعود من خدمته. نهضت بعدما ظنت أنه عاد. بحثت في كل المنزل ولم تجده. تفقدت موقف سيارته فوجدته فارغاً. عرفت إنه لم يأت فاشتعل قلبها “حسيت إنه عيطلي لأنه صاير معه شي”.
بعد قليل رن هاتف شقيق زوجها “اصفرت خلقته وراح لبعيد”. على الفور شعرت أم لامع بمزيد من القلق. عاد عم ابنها وطلب إشغال التلفاز. وهناك شاهدته.. شاهدت لامع مع المخطوفين في “البيك آب” الذي نقل العسكريين، وتأكدت أنه كان يناديها. وبرغم الصدمة والهلع إلا أنها لم تعرف أن خطفهم سيستمر كل هذه الفترة، وأن مصيرهم سيكون مهدداً إلى هذه الدرجة “وإلا كنت متت بأرضي”.
ومن يومها، من اليوم الذي غاب فيه لامع، الطالب الجامعي في سنة ثانية إدارة أعمال، ابن الـ23 عاماً، سجنت ثروت نفسها بين جدران منزلها محاطة بصوره. كان رفيقها “كنت فضفض له، ولاقيه حدي كل الوقت”. هو بكرها، وهي لا تنسى حملها الأول، رضيعها الأول الذي أصبح لاحقاً رجلها الأول. لحظة نبتت اسنانه، اليوم الذي حبا فيه. أما تاريخ سيره للمرة الأولى فمحفور في ذاكرتها لا يغيب.
بعد ستة أشهر من العزلة أعادت ثروت حساباتها “عندي مسؤولية تجاه لامع، هكذا قلت لنفسي”. غيرت ملابسها وخرجت إلى اعتصام أهالي العسكريين، وإلى تحركاتهم.
اليوم، وبعدما رأته في عيد الفطر الماضي للمرة الأولى قبل نحو 15 يوماً، تغيرت حياتها بعض الشيء “كحلت عيني برؤيته ووعدته بالصمود بانتظاره”. يومها قال لها “سامحيني يا أمي” عندما رأى نحولها. زاحت بعينها عنه نافية أن يكون المرض غيرها “انت مش متعود علي بالحجاب يا ماما”، كما بررت له. ويومها قضت الوقت معه وهي “تقرص” يدها خوفاً من أن تكون في حلم، أو تهيؤ كالذي جاءها يوم اختطافه وسمعت صوته.
توقف الحياة عند 2 آب 2014
بالنسبة لهيفا جابر، زوجة الدركي المخطوف ميمون جابر، لم يمر عام على الخطف “نحن ما عشنا سنة، نحن بس عم نتنفس مش عم نعيش”. يخرج صوت المرأة التي وجدت نفسها وحيدة وجهاً لوجه أمام طفل في الخامسة والنصف من عمره، يخرج واهناً يشبه عجزها عن تقديم إجابات وافية لأسئلة ابنها المتكررة عن والده.
بالنسبة لها، توقف الحياة طال حتى الحفلات المدرسية لولدها “كيف بدي روح ع حفلة وميمون مخطوف وحياته مهددة؟”. قرارها هذا ارتد على الصغير الذي عاد باكياً من المدرسة بعدما رأى آباء زملائه يحملونهم من المسرح سعداء ببدء العطلة الصيفية.
يزيد من وجع هيفا الوضع الصحي لأهل زوجها “أصابت الأمراض والدته ووالده دفعة واحدة. أصيبا بضغط الدم المرتفع، ومعه التعب النفسي الشديد الذي أقعدهم في المنزل وأعجزهم عن الذهاب حتى لرؤيته في المرة الأولى التي سمح لهم بذلك.
وحده وعدها له ان تعتني بطفلهما “عدي”، والأمل بعودته ليستكملا ما بدآه من حياة، يبقيها على قيد الحياة “اتصل بي عندما طوقوا مركزهم في عرسال وقال سيخطفوننا، أمانتك عدي”، وغاب.
العيش على “الفيتامين”
بداية، عندما خطف الجندي جورج خوري، لم تقل ماري، زوجته، لإبن الثلاث سنوات والنصف أن والده قد خطف “البابا عنده دورة بالجيش”.. هكذا بررت غيابه الطويل عن البيت.
عندما طال الغياب ومرضت “تيتا نبيهة” كما ينادي جدته لأبيه، شيئاً فشيئاً أخبروه بالحقيقة بحدود مبسطة تناسب عمره، خاصة عندما حملوه إلى الجرود لرؤيته.
كاد خطف جورج أن يقتل “تيتا نبيهة”. وحدها “الفيتامينات” التي حقنها لها الأطباء في جرعات مكثفة أبقتها على قيد الحياة. “ما عدت ع وجه الأرض” تقول نبيهة، أم جورج، بعد خطفه “أنا عشت لربيهم من اللحم الحي وشوفهم رجال”. ربت نبيهة ثلاثة أبناء بينهم جورج بعدما توفي زوجها وهم “بينطب عليهم الغربال”. لم يكن لديها راتب أو رصيد في مصرف، ناضلت وتعبت حتى أمنت مستقبلهم، وليس لتعيش أياماً عجافاً وهي قلقة على مصيرهم المهدد.
“تيتا نبيهة” لم تضع وجبة واحدة من “محشي الملفوف أو الكبب” وهي الوجبات المفضلة عند جورج. فقط عشية عيد الفطر طهتها بالحب الكبير نفسه وحملتها إليه في الجرود البعيدة.
ومن الجرود، وبعد أن امتلك صوراً لطفليه، أعطى جورج لزوجته فراشة من قماش ملون وجدها على الأرض حيث نقل للمرة الأولى بعد اختطافه. صارت الفراشة التي يحبها ولده البكر رفيقته “كان يصبحها ويخاطبها”. قال لزوجته “احتفظي بها وضعيها في غرفة الأولاد هدية مني”.
عند الثامنة من مساء كل يوم، تقصد “تيتا نبيهة” وابنها داني، شقيق جورج، منزل عائلته. هناك يضع داني صغير شقيقه في حضنه ويغني له تهويدة المساء، كما كان يفعل جورج. يمسك الصغير بيد عمه وينام ملء جفونه.
في عيد الجيش لا تريد نبيهة إلا “أن يعود جورج ليضع صغيره في حضنه وينام”.