لم يكن رئيس “تكتل التغيير والاصلاح” في لبنان العماد ميشال عون يتصوّر وهو يعدّ العدّة لتحويل “التيار الوطني الحر” حزباً سياسياً، ان يُواجَه من داخل بيته بحملة هي الأولى من نوعها في شكلها ومضمونها.
وفي المقابل لم تكن الفئة الأكبر من العونيين الذين طالبوا منذ سنوات بإصلاحات وانتخابات داخل التيار، تتخيل ان عون سيتدخل مباشرة ومن دون مواربة في انتخابات باتت نسخة طبق الاصل عن “انتخابات” الاحزاب اللبنانية، اي انتقال السلطة عبر التوريث وليس عبر العملية الديموقراطية.
منذ أشهر و”العونيون” يتنازعهم شعور مزدوج، هم فرحون بتحوُّل تيارهم، الذي أطلقوه بعدما نفي عون الى باريس (العام 1991)، حزباً سياسياً بموازاة الأحزاب اللبنانية الاخرى، وفي مقدّمها “القوات اللبنانية”، المنافس الاول على الساحة المسيحية. لكن فرحتهم يشوبها القلق على مصير التيار، بعدما بات محسوماً ان الانتخابات الحزبية الاولى على طريق تحويل التيار حزباً، هي في الشكل انتخابات ديموقراطية، لكنها في الحقيقة عبارة عن تسليم صهر عون الوزير جبران باسيل حزباً سياسياً متكاملاً، ونضال الأعوام الـ 25 الماضية.
لم يُخْفِ المعارضون من داخل التيار يوماً استياءهم من الواقع الداخلي للتيار في مرحلته الحديثة، وخصوصاً منذ العام 2009، في ظل إمساك عون وحلقة من المقرّبين منه بزمام الامور. ليست المشكلة بتولي عون سلطة القرار، وهو أمر طبيعي في تيار واسع وعريض وليس له اي هيكلية حزبية. يكفي ان اسم التيار لا يزال حتى اليوم ينسب الى عون كحالة “عونية”. المشكلة ان 2005 – 2009، كانت مرحلة الصعود وتثبيت الحالة العونية كتيار سياسي حاز اعلى نسبة تصويت لدى المسيحيين. لكن بعد العام 2009 والدخول بخطى وطيدة الى السلطة التنفيذية ومجلس الوزراء، أحاط عون نفسه بحلقة من السياسيين لا تمثل أحلام الشباب العوني وتَطلعاته.
وتكمن إشارات العتب التي يبديها هؤلاء الممتعضون في سلسلة من النقاط:
- اولاً: ان حلقة القريبين من عون والمؤثرين في قرارات التيار التنظيمية وليس فقط قرارات “تكتل التغيير والاصلاح”، هم من خارج التيار ولا يعرفون شيئاً عنه وعن نضالات شبابه، لا بل ينظرون الى هؤلاء باعتبار انهم تعبير عن زمن ولّى.
- ثانياً: ان عون ظلّ يؤخر عملية انتقال السلطة وتأسيس حزب بالمعنى الفعلي، الى ان نضجت تجربة باسيل الحكومية والسياسية. علماً ان اعتراضات هؤلاء على باسيل تنطلق من ان “الوزير الدائم” فشل مرتين في الفوز بالانتخابات النيابية في البترون، وهو وإن كان نشط في التسعينات مع شباب التيار الا انه ابتعد عن القاعدة العونية، لا بل تخلى عن غالبية الذين ناضلوا لسنوات طويلة، ولم يستفق عليهم إلا في الاونة الاخيرة، بحسب ما تُبيِّن جولاته المناطقية في الأشهر الماضية. اضافة الى ان باسيل يحيط نفسه بمجموعة من رجال الأعمال، هم إما مشاريع نواب او مشاريع وزراء كما حصل مع الوزير الياس ابو صعب، وهؤلاء لا يريدون من التيار سوى ان يكون مطيتهم للوصول الى السلطة.
- ثالثاً: ان شباب التيار الفعليين الذي خاضوا مواجهات مباشرة مع سلطة النظام السوري والأجهزة الأمنية، وتعرّضوا للاعتقالات في 7 اغسطس من العام 2001 والملاحقات في الاجتماعات الحزبية او الجامعية والتظاهرات منذ ان نفي عون الى باريس، لم تصل الا قلة محدودة منهم الى مواقع المسوؤلية في “التيار الحر” وفي العمل السياسي. اما الذين اختيروا نواباً او وزراء فغالبيّتهم من خارج هذه الحلقات التي بقيت مهمَّشة الى حد كبير.
- رابعاً: ان اعتراض هؤلاء يكمن في ان الهيكلية الحزبية التي كان يفترض ان تتم في شكل تلقائي بعد مرحلة استتباب الوضع الداخلي في لبنان وتَحوُّل التيار بقاعدته العريضة والمشتتة احياناً كثيرة، تأخرت بفعل أسباب غير مُقْنِعة. وهذه المجموعات كانت اعتبرت ان النظام الداخلي الذي استغرق العونيون أشهراً لكتابته الى ان جرت تعديلات جوهرية عليه، سيؤمن لها حضوراً في التيار ومكافأة على ما تحملته الأعوام الفائتة، على الأقلّ داخل التركيبة الحزبية. لكن ما حصل هو العكس تماماً.
وبات معروفاً ان ثمة مجموعتين تتنافسان على الوصول الى رئاسة التيار، الاولى تضم باسيل وبعض القريبين منه العاملين على وضع خطة عملية لوصوله الى رئاسة الحزب، والثانية تضم ابن شقيق “الجنرال” نعيم عون، وابن شقيقته النائب آلان عون، اضافة الى نواب حاليين ومسؤولي مناطق وكوادر شبابية.
الصورة الاولى لواقع التيار قبل نحو شهرين من الانتخابات المحددة في 20 سبتمبر المقبل، بمعزل عن الكفة التي يرجّحها العماد عون، تعطي الافضلية الى المجموعة الثانية، حسب ما تتحدث مصادرها، وإلا كيف يمكن تفسير تدخل عون المباشر بالانتخابات وتزكية باسيل عبر الدفاع عنه ومهاجمة المعترضين على وصوله الى رئاسة التيار، لولا شعوره بأن باسيل يواجه معركة شرسة من فريق المعترضين عليه، وان احتمالات نجاحه ضئيلة؟
وما يميّز هذه المجموعة ليس شخصياتها المتقدّمة في العمل السياسي والاعلامي، انما ارتباطها المستمرّ منذ أعوام بالقاعدة الشعبية وبالعمل المناطقي والطالبي. صحيح ان أبرز ركنين فيها ينتميان الى عائلة عون، لكن الاثنين كانا من ضمن صفوف المتقدمين في العلم الميداني طوال أعوام، ولا سيما نعيم عون الذي، وبخلاف النائب آلان عون، جاهر عبر الصحف ووسائل الاعلام أكثر من مرة برأيه في وضع التيار مطالباً بإجراء إصلاحات حقيقية فيها.
لكن معضلة هذا الفريق ان نعيم عون لم يعد في استطاعته الوصول الى رئاسة التيار بعد التعديلات التي أجراها “الجنرال” وباسيل على النظام الداخلي، وان بعض المشككين يعتبرون ان النائب آلان عون سيتراجع عن خوض المواجهة اذا استمرّ العماد عون في حملة “تأنيب” المعارضين لفضحهم على صفحات الصحف ما يجري في الكواليس وداخل البيوت العونية الكثيرة. اما النواب الحاليون، فمشكلة بعضهم ان دورهم محدود داخل التيار، والآخرون يعتبرون ان من المبكر حسم مواقفهم لجهة خوض معركة ضد باسيل او تأييده تماماً، قبل وضوح الرؤية وتبيان اتجاه العماد عون النهائي وهو ما بدأ يظهر تدريجاً، سواء بكلام “الجنرال” العلني او داخل الاجتماعات، وصولاً الى تعيينه موعد الانتخابات في 20 سبتمبر اي قبل حسم وضع صهره الآخر العميد شامل روكز في قيادة الجيش (وفي بعض بنود النظام الداخلي التي لا تسمح بوصول روكز الى رئاسته علماً ان شعبيته داخل التيار كبيرة). فاذا فرّط عون بصهره العميد في رئاسة التيار، ألا يمكن له ان يفرط بخصوم صهره وزير الخارجية؟
فالمحصلة بحسب المطلعين على مجريات الاوضاع داخل التيار تكمن في ان المعارضين يعرفون تماماً ان هذه المعركة مصيرية بالنسبة الى مستقبلهم السياسي. فهؤلاء النواب منهم يدركون ان وصول باسيل الى رئاسة الحزب يعني ان ولايتهم النيابية ستصبح في خبر كان. وهذا ما جعل بعض الذين كانوا يترددون الى اجتماعات المعارضين في مراحلها الاولى، يحاولون تدوير الزوايا وتغيير مواقعهم والتقرب من باسيل. وقد بدأ ذلك يأخذ صدى أكبر بعد انتقادات العماد عون العلنية لمعارضي باسيل.
في حين ان بعض المعارضين من خارج حلقة النواب، مصرون على خوض المعركة حتى النهاية، لانهم يعرفون منذ الآن انهم بمجرد ان وقفوا في وجه باسيل، فانهم باتوا خارج “استحقاق النعمة” وبعيداً عن رضى الجنرال، سواء فاز باسيل بالانتخابات او خسرها.
اما من جهة باسيل، فوزير الخارجية يعرف تماماً موقعه لدى العماد عون، ويعرف ان لديه ثغرة في التعاطي مع القاعدة، لكنه ايضاً يعرف ان تَحوُّل التيار الى قوة سياسية فاعلة كما هي حاله الآن، لا يتمّ عبر النشاطات الحزبية على غرار ما كان يحصل أيام الوجود السوري ومرحلة النفي. ويُشهد لباسيل رغم الانتقادات التي تُوجّه ضده، انه يحمل ملفاته الوزارية ويدرسها بعناية، ولذا فهو درس ملف التيار بعناية، وعرف ثغره ومكامن الضعف فيه، وحاول قدر الامكان إحكام السيطرة على المفاصل الأساسية في الحزب عبر النظام الداخلي والتعديلات عليه.
وفي موازاة ذلك، بدأ باسيل حملة لقاءات واتصالات شاملة مع المعارضين ولا سيما البارزين منهم، عبر دعوات الى الغداء والعشاء واجتماعات ليلية مكثفة، من اجل ضمان حصوله على أكبر نسبة من المؤيدين.
ولا يُقلِق باسيل وصوله الى رئاسة التيار. يعرف ذلك تماماً منذ ان اتخذ عون قراره وأبلغ الى جميع الذين يراجعونه من داخل العائلة والتيار على السواء، بأن رئاسة التيار ستكون لباسيل. لكن الأخير يريد ان يصل مسجلاً نسبة عالية من الأصوات ومن المناصرين الذي عُرف عنهم سابقاً معارضتهم له.
ويحاول باسيل ان يتقدّم سياسياً كما تقدّم وزارياً، ورئاسة التيار تعطيه بذلك شرعية الجلوس على طاولة واحدة مع نظرائه في الأحزاب اللبنانية من الندّ الى الندّ. ومن اجل ذلك يريد الوصول الى رئاسة التيار في 20 سبتمبر المقبل من دون عقبات.
والمفارقة ان لبنان اعتاد انتخاب رئيس للجمهورية في 23 سبتمبر قبل مراحل الفراغ والتمديد. اليوم ينتظر التيار رئيساً له في 20 سبتمبر. هم يعرفونه سلفاً، لكن اللعبة الديموقراطية تفترض إسقاط ورقة الاقتراع في الصندوق. تماماً كما حصل في انتخابات “الكتائب”، ورئاسة حركة “أمل”، و”القوات اللبنانية” والحزب “التقدمي الاشتراكي” و”تيار المردة” و”المستقبل”.