قفزت تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد قفزة هائلة أمس، حين وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على عقار، تم إنتاجه بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، ليمهد السبيل لثورة في طباعة المواد المركبة باستخدم مواد متنوعة، تتسع قائمتها سريعا.
وكانت أحلام طباعة السيارات والبيوت واستنساخ جميع أنواع المعدات، قد تحولت إلى أمر واقع في السنوات الأخيرة. وسرعان ما بدأت التقنية بتوجيه أنظارها إلى صناعة الأسلحة والمستلزمات الطبية.
ويبدو من المستبعد أن تقف هذه الثورة الشاملة عند أي حدود، حتى تصل إلى جميع نواحي الحياة، لكنها لاتخلو من مخاوف من انتشار القرصنة والفوضى الاقتصادية، حين يستطيع أي شخص استنساخ ما تقع يده عليه دون اعتبار لحقوق الملكية الفكرية، إضافة إلى إحالة مئات الملايين إلى البطالة.
ثورة طبية وشيكة
وفجرت شركة ابريشيا للمستحضرات الدوائية الأميركية نقلة نوعية، حين حصلت أمس على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، على استخدام عقار أنتجته بتقنية الطباعة المجسمة، كدواء مساعد لعلاج الصرع.
وتسمح التقنية للشركات بإنتاج عقاقير حسب مواصفات المريض بدلا من فرض صيغة محددة للعقار.
وتتم الاستعانة بهذه التقنية لتكوين جسم ثلاثي الأبعاد بوضع طبقات رقيقة متتالية فوق بعضها، لطباعة أجزاء متداخلة معقدة التركيب. كما يمكن صناعة أجزاء من مواد متباينة وبمواصفات فيزيائية مختلفة.
وكان الباحثون قد تمكنوا من طباعة عدد من أجزاء الجسم مثل الأسنان وعظام الفك والفخذ والأجهزة السمعية وغيرها.
واستحدث علماء بريطانيون استخدام الطباعة المجسمة، لإنتاج نماذج طبق الأصل من الأجزاء المصابة بالسرطان في الجسم، ليتمكن الأطباء من استهداف الأورام الخبيثة بدقة أكبر.
ونجح جراحون صينيون الأسبوع الماضي في زراعة جمجمة صنعت بالطباعة ثلاثية الأبعاد، لطفلة مصابة بمرض استسقاء الرأس، لتواصل نموها بطريقة طبيعية.
ويتوقع أن تحدث الطباعة المجسمة تقدما كبيرا في مجال الجراحة، وقد أجريت أول عملية مماثلة في أبريل 2014 حيث نجح أطباء هولنديون في زرع أول جمجمة تمت طباعتها بواسطة هذه التقنية لمريضة عمرها 22 عاما.
طباعة السيارات
وكانت شركة لوكال موتورز قد سرقت الأضواء في معرض أميركا الشمالية للسيارات في مدينة ديترويت الأميركية في يناير الماضي، حين مكنت الزوار من متابعة طباعة سيارة داخل المعرض، يمكن قيادتها فور انتهاء عملية إنتاجها بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد.
وتابع الزوار في جناح الشركة في المعرض إنتاج السيارة داخل غرفة يوجد فيها جهاز طباعة كبير، يتدفق منه تيار من اللدائن الساخنة، ليتشكل بالتدريج جسم وهيكل السيارة السيارة الكهربائية “ستراتي” من خلال تكنولوجيا الطباعة المجسمة.
وتستغرق عملية “طباعة” السيارة بالكامل 44 ساعة لكن شركة لوكال موترز تقول إنها تسعى لخفض وقت الطباعة إلى نحو 24 ساعة فقط.
وتشبه هذه العملية أغلب عمليات الطباعة ثلاثية الأبعاد، لكن الشركة تؤكد أن تقنيتها أقل تكلفة لأنها تستخدم اللدائن على هيئة كريات لا على هيئة خيوط.
وقالت إن “المصنع متناهي الصغر” وهو صديق للبيئة بسبب انخفاض الخامات التي يتم إهدارها إلى مستويات لا تذكر. كما أن المصنع يتيح إنتاج السيارة في المكان المطلوب، قرب مراكز البيع والتسويق، وبالتالي يتم توفير تكاليف عمليات الشحن.
وأكد الرئيس التنفيذي ومؤسس الشركة جاي روجرز إيمانه بهذه التكنولوجيا وأنها ليست مجرد تجربة علمية. وقال إنها ثورة تكنولوجية، ستغير صناعة السيارات في العالم.
وهناك اليوم عدد كبير من الشركات، التي تقوم بطباعة أجزاء من جسم السيارة ثم تقوم بتجميعها، لكن شركة لوكال موتورز تؤكد أنها أول شركة تتمكن من طباعة كامل جسم وهيكل السيارة.
ومازالت الشركة تحاول الحصول على الموافقات الرسمية من الجهات المختصة للسماح باستخدام السيارة في الشوارع حيث تستهدف الانتهاء من هذه الإجراءات بحلول نهاية العام الحالي على أن تبدأ في تلقي طلبات الشراء في العام المقبل.
وتنقسم آراء المراقبين حول تأثير هذه التقنية على الوظائف في قطاع السيارات حيث يقول البعض أن انتشارها في المستقبل سيؤدي إلى إغلاق الكثير من مصانع السيارات في العالم.
لكن الشركة تقول إنها ستخلق الكثير من الوظائف المحلية في مواقع الطلب على السيارات، حيث يتم إنتاج السيارة في مصنع صغير ملحق بمعرض البيع، حيث يختار الزبون مواصفات السيارة ليتم تصنيعها له خلال يوم أو يومين.
وتؤكد الشركة أن ذلك سيوفر على البيئة عمليات الشحن الكبيرة عبر ناقلات كبيرة في البر والبحر.
طباعة المباني
ويقول محللون إن تقنية الطباعة المجسمة ستؤدي إلى ثورة صناعية شاملة، بعد أن بدأت الصين منذ العام الماضي ببناء المساكن بتلك التقنية.
وأعلن في دبي في يونيو الماضي عن تشييد مبنى للمكاتب من طابق واحد باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في خطوة من شأنها توفير الوقت وخفض النفقات بنسب تصل إلى 80 بالمئة.
وقال محمد القرقاوي وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء حينها إنه ستتم طباعة أجزاء المبنى الذي تبلغ مساحته 2000 متر، طبقة إثر أخرى باستخدام جهاز طباعة يبلغ ارتفاعه 20 قدما، وسيتم تركيب الأجزاء في موقع المبنى في غضون أسابيع قليلة.
وأضاف أن استخدام هذه التقنية في مجال الإنشاء سيقلص زمن إنجاز المشاريع بنسبة تصل إلى 70 بالمئة ويخفض التكاليف بنسبة تصل إلى 80 بالمئة.
والمشروع نتيجة شراكة بين حكومة دبي وشركة وينسون الصينية التي تعتبر رائدة في مجال استخدام أجهزة الطباعة ثلاثية الأبعاد لتشييد المباني.
وكانت شركة وينسون قد أنجزت طباعة 10 منازل كاملة الحجم في شرق الصين باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد. واستغرقت الطباعة يوما واحدا فقط، باستخدام الإسمنت سريع التجفيف، لكنها لم تعلن تفاصيل أسرار التكنولوجيا.
واستخدمت الشركة طابعة بعرض 4 أمتار وطول 10 أمتار وارتفاع 6.6 متر. واستخدمت في البناء نفايات الإسمنت لبناء الجدران.
وقال “يا ماهي” الرئيس التنفيذي للشركة إن الطباعة ثلاثية الأبعاد ستوفر الوقت والجهد البشري، وهي أقل ضررا بالبيئة من الطرق الحالية في البناء. وتوقع أن تنخفض تكلفة بناء منزل بهذه الطريقة إلى أقل من 5 ألاف دولار.
وتسمح الطباعة ثلاثية الأبعاد باستخدام مخلفات المناجم لطباعة أي تصميم في أجهزة الكومبوتر بسرعة لتحرر البشر من أحد الأعمال الخطيرة والمعروفة بارتفاع عدد ضحاياها.
وتجري شركة وينسون حاليا الاختبارات على متانة الأبنية التي تم تنفيذها على أمل الحصول على تشريعات قانونية لها.
إطالة رحلات الفضاء
وتمتد الثورة التي تعد بها الطباعة المجسمة إلى آفاق لا حصر لها، حتى أن وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أرسلت طابعة إلى محطة الفضاء الدولية، وتمكن رواد الفضاء من طباعة إحدى مكونات المحطة في الفضاء في خطوة نحو الاكتفاء الذاتي في تصنيع قطع الغيار التالفة.
وقالت ناسا إن الخطوة “تفسح المجال أمام رحلات استكشاف فضائية طويلة الأمد” لأنها ستمكن رواد الفضاء من إنتاج القطع البديلة في الفضاء، بدل انتظار وصول المؤن من الأرض، مما يسمح لهم بالسفر مسافات أبعد.
وأكد الرئيس التنفيذي لشركة “صنع في الفضاء” (ميد إن سبيس) آرون كيمر، الذي تتعاون شركته مع ناسا لتطوير الطابعة، أن تنصيب وتشغيل الطابعة في الفضاء “لحظة انتقالية في تطور رحلات الفضاء”.
متوفرة في الأسواق
وبدأت بعض الشركات بإنتاج وبيع الطابعات ثلاثية الأبعاد، حيث يعرض موقع أمازون طابعات من طراز اكس.واي.زد دافنشي، تبدأ بسعر 382 دولارا، لإنتاج جميع أنواع المجسمات.
تقوم الطابعات بنفث طبقات رقيقة فوق بعضها بدقة تتراوح بين 400 ميكرون في الطابعات البلاستيكية و25 ميكرونا لطابعات الليزر أو الطابعات الضوئية للحصول على مجسمات مماثلة للمجسم الذي تم وضعه على جهاز الكمبيوتر، أو الذي يتم مسحه بواسطة ناسخ ضوئي ثلاثي الأبعاد.
وتمتد آفاق هذه الثورة الصناعية من طباعة المعدات المنزلية والشخصية، إلى النماذج المعمارية وصولا إلى التقنيات الطبية مثل إنتاج المفاصل والأطراف الصناعية وأطقم الأسنان، وصولا إلى الأجهزة المنزلية والهواتف. وهي تعد بآفاق لا حصر لها.
مخاوف استنساخ الأسلحة
وتثير إمكانية استنساخ الأسلحة خارج نطاق السلطة، مخاوف من وصول التقنية إلى جماعات خارجة عن القانون بعد أن تمكنت مجموعة تطلق على نفسها اسم “ديفينس ديستربيوتد” من تصنيع أول مسدس باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، وأطلقت عليه اسم “المحرر”، ما أثار قلق أعضاء في الكونغرس الأميركي.
وتثير طباعة هذا المسدس مخاوف من وصول ملف التصميم لثلاثي الأبعاد إلى الإنترنت، وبالتالي يتمكن من يملك طابعة ثلاثية الأبعاد من إنتاج مسدس، لا يوجد عليه رقم متسلسل، ولا يخضع لأي عقبات تنظيمية أخرى.
ويمكن للطباعة ثلاثية الأبعاد أن تحدث ثورة في مجال التعليم وتوفير أدوات أفضل للطلاب، من الخرائط والأعضاء المجسمة إلى نماذج المركبات الكيميائية.
طابعة تستنسخ نفسها
ويعمل مبتكرون أطلقوا على أنفسهم “رِب راب” لتطوير آلة للطباعة ثلاثية الأبعاد يمكنها طباعة معظم أجزائها لتكون قادرة على استنساخ نفسها، ويمكن تصنيفها ضمن الروبوتات مفتوحة المصدر، أي أنها متاحة بالكامل دون قيود أو احتكار للجميع دون أي مقابل.
وصدرت جميع التصميمات التي أنتجها المشروع تحت رخصة البرمجيات الحرة الشهيرة جنو، مما يساعد في خفض أسعار تلك الآلة لتصبح متاحة للجميع بعيداً عن احتكار الشركات الكبيرة.
ويرى الخبراء أن هذه التقنية المفتوحة المصدر، بعكس التقنيات المحتكرة من قبل الشركات، ستسمح للمبتكرين بتطويرها بدءا بالبرامج والأجزاء الميكانيكية وحتى الخامات المستخدمة للوصول إلى أعلى جودة ممكنة بأقل تكلفة.