يتوقع اقتصاديون أن تعود أسعار النفط إلى حدود مئة دولار للبرميل في موعد لا يتجاوز عام 2017، لكن الأسعار الآن متذبذبة وميالة إلى الانخفاض، فسوق النفط رهينة لمعطيات عديدة منها ما يتعلق بمستويات الإنتاج في بلدان «أوبك» وأوضاع النفط الصخري وأحوال الاقتصاد العالمي ومستويات الاستهلاك في البلدان الأساسية مثل الولايات المتحدة والصين واليابان وبلدان الاتحاد الأوروبي.
بينت مسوح حديثة أن إنتاج الدول الأعضاء في «أوبك» فاق الطلب على نفطها بثلاثة ملايين برميل يومياً في الربع الثاني من العام. ويتخوف مراقبون من أن الاتفاق الغربي – الإيراني حول البرنامج النووي لطهران وما رافقه من تزايد لاحتمال رفع الحصار الاقتصادي عن إيران، قد يمكن هذه الأخيرة من زيادة إنتاجها وصادراتها النفطية خلال الشهور المقبلة بما يزيد الإمدادات ويفاقم الضغط على الأسعار.
كيف يمكن أن تتعامل منظمة «أوبك» مع مسألة زيادة الإنتاج الإيراني وهل سترفع مستوى الإنتاج الإجمالي إلى أكثر من 30 مليون برميل يومياً لاستيعاب زيادة إمدادات النفط الإيراني والحفاظ على حصص الدول الأعضاء في أسواق النفط؟ هذا سؤال مشروع في ظل الهشاشة الراهنة للسوق. ومعلوم أن تراجع أسعار النفط عرّض الدول المنتجة إلى عجز في الموازنات، خصوصاً بعدما زادت النفقات الجارية والرأسمالية في مختلف الدول المنتجة للنفط خلال السنوات الماضية حين تمتعت هذه الدول بإيرادات نفطية متنامية. وقد يكون ترشيد الإنفاق صعباً للعديد من هذه البلدان.
شهدت الأيام الماضية تراجعات لافتة في أسعار «برنت» والخام الأميركي الخفيف. وفي الوقت ذاته، أشارت بيانات إلى ارتفاع مستوى مخزون النفط الخام التجاري في الولايات المتحدة إلى 462 مليون برميل من 383 مليون برميل بداية العام، أي بنسبة 21 في المئة، وذلك يعني تخمة في المخزون واستقراراً في الاستهلاك، بما يمكّن من الحفاظ على مستوى المخزون أو تدعيمه خلال الشهور المقبلة. وتؤكد منظمة الطاقة الدولية أن الإنتاج العالمي الإجمالي يتراوح حول 96.6 مليون برميل يومياً، بزيادة 3.1 مليون برميل يومياً عنه قبل سنة. وسجل إنتاج «أوبك» أخيراً 31.7 مليون برميل يومياً. وتتوقع المنظمة أن تظل قدرات الدول غير المنضوية في «أوبك» على زيادة الإنتاج محدودة إن لم تكن معدومة. ولذلك ستكون الأسعار خاضعة للمتغيرات في السياسات الإنتاجية لـ «أوبك» وطبيعة التوافق بين الأعضاء.
هذه الحقائق تؤكد أن سوق النفط ما زالت سوقاً يتحكم بها المشترون لا المنتجون، ما يعني أن الأسعار ستظل متدنية في الأجل القريب ما لم تحدث تحولات في جانب الطلب العالمي، خصوصاً في البلدان المستهلكة الرئيسة، علماً أن هذه البلدان، سواء دول الاتحاد الأوروبي أو الصين، تواجه معضلات اقتصادية مهمة لا بد من أن تؤثر في الطلب على النفط في شكل غير مناسب.
يقدَّر إنتاج الولايات المتحدة بنحو 13 مليون برميل يومياً، ما يعني أن متطلبات الاستيراد انخفضت إلى نحو ستة ملايين برميل يومياً. ويتراوح إنتاج «أوبك» حول 31.3 مليون برميل يومياً كما ذكرنا. أما روسيا فيُقدَّر إنتاجها بأكثر قليلاً من 10 ملايين برميل يومياً. ونظراً إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعانيها بلدان «أوبك» والحصار الاقتصادي على روسيا، فإن شهية زيادة الإنتاج للتعويض عن الأسعار المهاودة ستكون حاضرة في أذهان السياسيين صانعي القرارات في العديد من البلدان المنتجة.
وعلى رغم تراجع إنتاج ليبيا إلى ما دون 400 ألف برميل يومياً بسبب الأوضاع الأمنية والتدهور التقني في الحقول، لم يؤثر ذلك كثيراً في مستوى الإمدادات الإجمالية لـ «أوبك» أو في سوق النفط عموماً. وقد تعطل أعمال تخريب متفرقة في العراق وتركيا دفق النفط العراقي عبر خط الأنابيب الواصل إلى ميناء جيهان التركي، لكن التأثيرات تظل غير ذات أهمية لأن الأعطال تُعامَل في شكل منهجي.
وهكذا فإن جانب العرض في سوق النفط لا يؤكد إمكانيات كبيرة لتحسن الأسعار إلى مستويات مريحة للدول المنتجة. فهل ستظل الأسعار تتراوح بين 50 و60 دولاراً للبرميل حتى نهاية هذا العام؟ يتوقع مختصون أن تتراوح أسعار «برنت» بين 60 و65 دولاراً للبرميل، في حين ستظل أسعار الخام الأميركي الخفيف بين 55 و60 دولاراً للبرميل. ربما تتحقق هذه التوقعات لكن ذلك مرهون بتطور أداء الاقتصاد العالمي وتراجع المخزون الأميركي وتباطؤ إنتاج النفط الصخري.
إذا كانت «أوبك» هي اللاعب الأساسي في ميدان الإنتاج والقادرة على رفع الإمدادات أو خفضها في شكل ذي معنى في السوق، فهل يمكن أن تحقق هذه المنظمة التناغم المطلوب بين سياسات الإنتاج لدى أعضائها؟ ثمة تحديات مهمة تتمثل في رغبة الدول الرئيسة في «أوبك» في الحفاظ على حصصها التقليدية في السوق، كما أن هذه الدول تراهن على تراجع قدرة منتجي النفوط غير التقليدية على التوسع في أعمال الإنتاج في ظل أسعار منخفضة؟ لكن إمكانيات زيادة إمدادات النفط الإيراني تمثل تحدياً مهماً لـ «أوبك» وقد تربك السياسات الإنتاجية الراهنة. وتُعد الأوضاع السياسية والأمنية في العراق عاملاً مهماً يجب أن يؤخذ في الحسبان، فالضغوط الناتجة من الإنفاق على التسلح قد تدفع الحكومة العراقية إلى زيادة الإنتاج خلال الشهور المقبلة.
تواجه البلدان المنتجة ضغوطاً في الإنفاق، بما في ذلك بلدان الخليج، فهل يمكن لهذه البلدان أن تراجع سياساتها وترشد إنفاقها بما يمكنها من تجاوز إمكانيات العجز الكبير في الموازنات، أو على الأقل تحقيق عجز لا يزيد عن نسبة مقبولة من الناتج المحلي الإجمالي، عند خمسة في المئة، مثلاً؟
لا يمكن للمرء أن يتوقع تحولات كبيرة في السياسات المالية في البلدان المنتجة التي اعتادت على إلزام الدولة بمسؤوليات مهمة مثل التشغيل وتقديم الدعم للوقود والسلع الأخرى، فالتراجع عن هذه المسؤوليات يعني إثارة المتاعب السياسية. لكن هذه البلدان تستطيع أن تخطط في الأجل البعيد وتبرمج الترشيد في الإنفاق وتتبع سياسات اقتصادية تمكن من دفع القطاع الخاص إلى أداء دور محوري في العمل الاقتصادي.