270 ألف موظف في القطاع العام، باتوا مهدّدين بلقمة عيشهم، بعد إدخالهم عنوة في دوامة التجاذبات السياسية، باتخاذ وزير المال علي حسن خليل من ملف رواتبهم وأجورهم ورقة للضغط على أخصام سياسيين من جهة، ولتبرئة ذمته من أي مخالفات في الإنفاق من جهة أخرى.
أزمة رواتب القطاع العام ليست بجديدة. ففي العام الماضي شهد القطاع العام “مسرحية” مماثلة (بحسب تعبير أحد خبراء المال)، واستمرّت السجالات حينها الى مطلع شهر تشرين الأول من العام 2014، موعد سداد رواتب القطاع العام، فقرّر مجلس الوزراء فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة، قدره 626 مليار ليرة لرواتب الموظفين لمدة شهرين.
أما اليوم، فأزمة رواتب القطاع العام (أو ما يسمّى بأزمة الرواتب) لا يمكن رد أسبابها سوى الى “مماحكات” سياسية، لاسيما إذا عدنا الى تفاصيل الدستور، واستذكرنا ما يورده حول رواتب موظفي القطاع العام، مانحاً إياها إمتيازاً عاماً يعلو على كلّ نفقة ويتوجب على الدولة، بموجب الدستور، تأمينها قبل أيّ إنفاق آخر وذلك “لتأمين استمرارية المرافق العامة”، من هنا نستنتج أنه كان حرياً بوزير المال تأمين رواتب القطاع العام وأجورهم، بعد إتمام عملية إصدار اليوروبوند في الأشهر الأولى من العام الجاري، والتي حقّقت نجاحاً باهراً (بحسب وزارة المال) بتأمين مليارين و500 مليون دولار، قبل سداد أي استحقاق آخر.
لحل أزمة الرواتب الحالية، بنظر وزارة المال، هناك وجهان، أحدهما غير قانوني وآخر قانوني، ويقتصر الأول على صرف الرواتب والأجور على أساس سلفة مالية، أما الثاني فيستلزم إقرار مجلس النواب مشروع قانون لفتح اعتمادات إضافية بقيمة 874 مليار ليرة، أو صدور مرسوم عن مجلس الوزراء لنقل الاعتمادات من احتياط الموازنة إلى بند رواتب القطاع العام، وذلك بهدف “قوننة الإنفاق”.
الوزير خليل وإن بدا متمسكاً بالحلّين المرتبطين بمجلسي النواب والوزراء، والمغطيين، برأيه، قانونياً، إلا أن ثمة علامات استفهام تدور حول مدى قانونية الإنفاق، في ظل غياب موازنة عامة، فهل أصبح الإلتفاف على القوانين أمراً قانونياً؟ وهل يُعتبر الإنفاق من خارج الموازنة أمراً مشروعاً لمجرّد فتح اعتمادات من قبل مجلس النواب؟ وفي حال تمكن مجلس النواب من الإجتماع لإقرار مشروع قانون يجيز فتح اعتمادات مالية، فليُقر الموازنة العامة ويضفي تغطية قانونية حقيقية على النفقات العامة كافة.
إصرار وزير المال على وجود أزمة في سداد رواتب القطاع العام مطلع شهر تشرين الأول المقبل، وتمسّكه باستحصال “تغطية قانونية” لسدادها، يلقيان انتقادات عديدة من خبراء مال، ولعلّ أبرزها جاء على لسان وزير المال السابق جورج قرم الذي انتقد المبالغة في مقاربة الأمور المالية، وافتعال أزمة بسداد رواتب القطاع العام، ورأى، في حديث الى “المدن”، أن لا أزمة يمكن أن تطال رواتب موظفي المرافق العامة، التي تخضع إلى مبدأ دستوري أعلى من أي مبادئ أخرى، وعلى الدولة سداد مستحقات القطاع العام “بأي طريقة كانت”. وانتقد قرم مصطلح “قوننة الصرف”، لأنه “لطالما سارت المالية العامة خارج أي آلية دستورية، وبعيداً من التقيّد بقانون المحاسبة العامة، منذ العام 2005 – 2006 وحتى اليوم، فعن أي قوننة للصرف يتحدثون”؟.
وعن نضوب الأموال العامة من الخزينة في أيلول المقبل، يبتسم قرم، سائلاً: عن أي أموال عامة يتحدثون؟ فخزينة الدولة لم تشهد فائضاً منذ الحرب الأهلية، وهي واقعة في عجز مالي كبير”، داعياً المعنيين إلى عدم إشاعة قلق غير مبرر في أوساط القطاع العام.