لا حسابات نووية او شرق اوسطية خلف الاندفاعة الغربية تجاه ايران. الطمع في السوق الايرانية وحده هو الذي دفع واشنطن الى الاستماتة في التوصل لاتفاقية نووية مع طهران، على أمل ان يساهم الود النووي في محبة تجارية وعلاقات.
اما سعي الرئيس باراك أوباما الى انجاز تاريخي في الانفتاح على اعداء الأمس، فيرتبط بطمع أوباما في اسواق هؤلاء الاعداء، خصوصا ان عقودا من العداوة أبقت اقتصادات هذه الدولة متخلفة واسواقها عذراء، حسب التعبير الاميركي.
هكذا، صادق أوباما بورما، فكوبا، والآن يحلم بزيارة طهران، جوهرة اقتصادات هذه الدول الثلاث لحيازتها ثاني أكبر احتياطي نفطي عالمي وثمانين مليون مستهلك.
وسياسة أوباما هي التتمة الطبيعية لنهاية التاريخ مع نهاية الحرب الباردة وفوز الديموقراطيات، حسب فرنسيس فوكوياما. فالوثائق التي أفرج عنها الرئيس السابق بيل كلينتون واودعها مكتبته الرئاسية، قبل نحو عام، تظهر نقاشا أميركيا في عهده وحيرة تجاه “الدول الفاشلة”، مثل افغانستان والصومال، التي تحولت الى مرتع للارهابيين استخدموها لشن هجمات ضد اهداف اميركية وغربية. وتظهر الوثائق يأسا اميركيا سببه عقم استعراض القوة الاميركية، من قبيل تحريك حاملات طائرات هنا او شن غارات هناك، في ثني الارهابيين عن ارهابهم.
ثم كانت هجمات ١١ ايلول، فاعتقدت ادارة الرئيس السابق جورج بوش ان الديموقراطية التي هزمت السوفيات هي التي ستهزم الارهاب، وانه لا بد من نشرها في الدول الفاشلة لمنعها من استضافة الارهابيين. وكررت أميركا في افغانستان والعراق تجربة اسرائيل الفاشلة في لبنان في ثمانينات القرن الماضي عندما حاولت تل ابيب استخدام قوتها العسكرية لهندسة ديموقراطية لبنانية ما تؤدي الى انهاء استضافة بيروت للمجموعات المقاتلة التي كانت تقلق راحة اسرائيل وحدودها الشمالية.
اقتحمت أميركا العراق، واعتقدت انه نظرا الى ثروته النفطية، يمكن الرأسمالية العراقية ان تنتج ديموقراطية من تلقاء نفسها، وفات التفكير الاميركي الساذج ان المال وحده لا يبني ديموقراطيات، وان غزارة اموال العراق تعزز شبكاته الريعية القبلية المختبئة خلف ثرثرات طائفية واثنية. اما الدليل الابرز فجاء من كردستان العراق حيث تدفقت الاموال وحيث تحول مام جلال (الطالباني) رئيسا للعراق منتخبا الى الأبد، وتحول كاك مسعود (البرزاني) رئيسا منتخبا لكردستان، الى الأبد كذلك. واستخدم الرجلان عائدات النفط لتمويل شبكتيهما القبليتين على حساب الديموقراطية واهلها.
ومع انتخاب باراك أوباما رئيسا، استفاقت واشنطن، خصوصا بتأملها بالتجربة الصينية، وتوصل بعض اميركا الى خلاصة مفادها ان الرأسمالية لا ترتبط بالديموقراطية، وانه يمكن الحفاظ على الاولى حتى لو على حساب الثانية، او على الأقل يمكن أميركا اقامة علاقات رأسمالية مع دول نظامها السياسي غير ديموقراطي ويختلف عن الانظمة الغربية، وهي فكرة تقوض اسس الحرب الباردة التي كانت تستند الى اقناع الشعوب الغربية بترابط الاثنين، أي انه اذا ما سادت الشيوعية واضمحلت الرأسمالية، وقتذاك تضعف الديموقراطية وحقوق الافراد في الحرية والعدالة. ولأن الدول التي تبنت الشيوعية كانت غير ديموقراطية اصلا، تعزز الارتباط بين الشيوعية والديكتاتورية، من جهة، والرأسمالية والديموقراطية، من جهة ثانية.
وبسبب حرصها على الديموقراطية، راحت أميركا تضحي من اجل حلفائها على حساب اقتصادها، فمنحت دولا مثل اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية امتيازات تجارية لابقاء هذه الدول في فلك الديموقراطية وابعادها عن الشيوعيين. ولكن هذه الدول الثلاث المذكورة، وغيرها من حلفاء أميركا، لم تعامل أميركا بالمثل، وراحت تنافسها اقتصاديا حول العالم، على حساب الديموقراطية ومبادئها.
هكذا، زودت فرنسا اسرائيل مفاعلا نوويا، واعطت المانيا العراق ترسانته الكيميائية، وباعت روسيا ايران مفاعل بوشهر. واثناء الثورة الخضراء في العام ٢٠٠٩، زودت شركة سيمنز الالمانية اجهزة الامن الايرانية بتقنية سمحت للاجهزة باختراق وسائل اتصال ثوار ايران، ثم بالكاد التزمت المانيا والصين العقوبات الدولية على ايران، بل استمرتا في التعامل مع طهران طمعا باقتناص السوق الايرانية.
وفي ذروة التنافس الاميركي الصيني، العقد الماضي، باعت اسرائيل الصين تكنولوجيا عسكرية متقدمة حازت عليها من اميركا، فجنت ارباحا وحظوة صينية على ظهر الاميركيين. وفي وقت كانت بعض الشركات الغربية تتفاعل ايجابا مع حملة مقاطعة منتجات المستوطنات الاسرائيلية لدعم حقوق الفلسطينيين، كانت الصين تستورد كل هذه المنتجات وتزيد من حجم تجارتها مع اسرائيل.
هذا السباق التجاري الدولي، بغض النظر عن سياسات الحكومات المتاجرة، دفع الاميركيين للاعتقاد بعقم الدفاع وحدهم عن معبد الديموقراطية وحقوق الانسان على حساب شركاتهم ومصانعهم وصادراتهم. وعندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم الاوكرانية، رفضت واشنطن فرض عقوبات احادية على موسكو من دون مشاركة الاتحاد الاوروبي، ورفض الاميركيون منح اسواقهم في روسيا للاوروبيين او للصينيين.
هكذا انفصلت الديموقراطية والرأسمالية، اللتان اقترنتا في المخيلة الاميركية اثناء الحرب الباردة، واصبح هدف واشنطن الاسواق والصادرات وعافية الاقتصاد الاميركي وكثرة وظائفه. اما حقوق الانسان في كوبا، فيمكنها الانتظار الى جانب الديموقراطية في بورما. حتى العلاقة الذهبية بين أميركا واسرائيل تداعت، وصار الاميركيون يرون الاسرائيليين لا كأطفالهم المدللين، وانما كمزعجين يفسدون عليهم تجارتهم مع دول العالم الاخرى كايران، فيما يسعى الاسرائيليون الى افضل العلاقات مع دول مثل الصين، بغض النظر عن الموقف الاميركي.
والديموقراطية والرأسمالية انفصلتا ايضا داخل الولايات المتحدة بعدما سمحت المحكمة العليا بدخول المال الى عالم السياسة بغير حساب. هكذا، لم تعد اصوات الناخبين بأهمية جيوب المانحين، وتحول رابع اغنى رجلين في العالم، الاخوين كوك، الى ابرز صانعي الملوك في ديموقراطية أميركية ارادها الرئيس التاريخي الراحل ابرهام لينكولن يوما “حكومة الناس، من الناس، والى الناس”.
وترجّل فوكوياما عن قمة التاريخ، ودبّج كتابا سيصدر في اسابيع عن “الاضمحلال السياسي” في الدول الغربية وحكوماتها.
الى متى يستمر السباق الرأسمالي، الذي كان يسمى مركنتيليا في الماضي القريب، من دون ان يتسبب بمواجهة تعيد الاطراف الى رشدها وتعيد حاجتهم الى منظومة سياسية عالمية تضع حقوق الناس والديموقراطية في مرتبة اسمى واعلى من رأس المال والارباح؟ الاجابة لا تزال متعذرة.