عرف البحر الأبيض المتوسّط العديد من حضارات العالم القديمة والعريقة، وشهد حوضه الكثير من الحروب والنزاعات والهجرات. وتميّزت العلاقات بين شماله وجنوبه وشرقه ــ في غربه يمتد المحيط المترامي إلى عوالم لم تكن معروفة قبل اكتشاف «العالم الجديد»، أميركا ــ بكل أشكال التوترات ونزاعات المصالح.
وذلك كلّه على خلفيات اقتصادية وسياسية وأيديولوجية وعقائدية. ولا يخفى على أحد أن هذا البحر كان ممرّا لحملات التوسّع الاستعماري. لكنه لعب، في بعض الأحيان، دور «بحيرة سلام وتواصل» بين حضارات وشعوب حوضه.
وحول هذا العالم المتوسطي بصورته الراهنة وما يحمله المستقبل من رهانات إستراتيجية لبلدانه، صدر كتاب جماعي ساهم فيه العديد من الباحثين الأوروبيين والعرب بإشراف «كوزيمو لاسيرينيولا»، الأمين العام لمركز الدراسات الغذائية العليا في حوض البحر الأبيض المتوسط.
يحمل الكتاب عنوانا رئيسيا هو «برّ وبحر» ويدرس المساهمون فيه «الموارد الحيوية لمنطقة المتوسط» كما جاء في عنوانه الفرعي. ويضم 15 مساهمة تبدأ بمساهمة تعالج «منطقة حوض المتوسط، عدد سكان كبير وأرض صغيرة» وتليها أخرى تبحث في دراسة بعض الحالات مثل «ألبانيا» و«لبنان» و«جنوب المغرب». وتبحث بعض المساهمات في«الأزمات» و«الاضطرابات» التي تواجهها منطقة حوض المتوسّط.
ويتفق المساهمون على أنه في العقود الأخيرة بُذلت جهود من أجل خلق مناخ من التعاون والتضامن بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. تلك الجهود أثمرت عن توقيع ما عُرف بـ«إعلان برشلونة» عام 1995 وقيام «الشراكة الأوروبية ــ المتوسطية».
وما يتم تعريفه بأنه «مرحلة مهمّة في تاريخ العلاقات الأوروبية مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسّط». لكنها مرحلة لم تجد حتى الآن ما يزيل «المخاوف والشكوك» بين البلدان المعنية ومما يسمح بـ«تعبئة حقيقية» تساهم في بناء «منطقة متوسطية مزدهرة» تأخذ مكانها ومكانتها في العالم «المعولم» القائم.
ويحدد «كوزيمو لاسيرينيولا»، المشرف على هذا الكتاب الجماعي، هدف هذه الشراكة «السياسية والاقتصادية والاجتماعية ــ الثقافية»، كما يعرّفها، بـ«جعل حوض البحر الأبيض المتوسّط مجالا للحوارات ولمختلف أشكال التبادل والتضامن».
ويرى في تقديره لمحصّلة العشرينa السابقة من حياة «الشراكة الأوروبية ــ المتوسطية» أن «الوضع الإستراتيجي تغيّر كثيرا في المنطقة والتعاون المتعدد الأطراف لا يكاد يجد ميادين للتعبير الإيجابي عنه بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ودول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسّط».
إن مختلف هذه المساهمات التي تتركز على المنطقة المتوسطية تبحث الإمكانيات الاجتماعية ـ الاقتصادية للقطاعات الزراعية التي «تعرف ضغوطا كثيرة وكبيرة»، مصدرها الأساسي يتمثّل في «الرهانات السياسية الكامنة وراءها»، وتحلل دينامياتها.
ويطرح المساهمون في الكتاب العديد من الأسئلة حول العادات الغذائية السائدة وما يترتب على ذلك كله من «مسؤوليات اجتماعية» و«المسؤوليات حيال البيئة». وفي جميع الحالات تتم دراسة ذلك من زاوية النتائج على الثروتين الحيويتين المتمثّلتين في «البر ـ الأرض» و«البحر»، ومن هنا يأتي عنوان الكتاب.
في المحصلّة النهائية تتم صياغة ما يمكن أن يبدو بمثابة «توصية» موجّهة للمسؤولين في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط على مختلف مستوياهم، مفادها أنه من المطلوب والملحّ اليوم «تحديد أهداف واضحة لتنمية مستدامة وكذلك تحديد برنامج زمني لفترة ما بعد عام 2015.