كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
رد العماد ميشال عون على بعض التحاليل الصحافية التي تحدثت عن وجود قرار خارجي وداخلي بكسره، علماً أن لا قرار من هذا النوع، والمسألة لا تتجاوز «التنظير السياسي»، ومنطق الكسر والإلغاء انتهى مع انتهاء حقبتي الحرب والوصاية السورية على لبنان.
لا يمكن وضع تأجيل التسريح في خانة انتصار فريق على آخر، والخلاف حول هذا الإجراء لم يكن من طبيعة ٨ و ١٤ آذار، بدليل أنّ معظم القوى السياسية تعاملت مع هذا الاستحقاق على قاعدة التمديد إذا تعذّر التعيين. وبالتالي، كان على العماد عون أن يدرك باكراً أن لا حماس من حلفائه قبل خصومه على التغيير في المؤسسة العسكرية في لحظة فراغ رئاسي وقلق أمني.
وإذا كان تمّ تصوير ما حصل بأنه خسارة لعون، فهو نتيجة الحملة السياسية التي قادها تحت هذا العنوان، فيما هذا الشعور لم يراود الرئيس نبيه بري والنائب سليمان فرنجية و»حزب الله» الذين تعاملوا بواقعية مع هذا الاستحقاق على غرار مكوّنات ١٤ آذار.
وما يدخل تحت عنوان الربح والخسارة يندرج تحديداً في المعارك الانتخابية، وليس التوافقات السياسية التي يغلب عليها التقاطع بين أبرز القوى السياسية على توجّه معيّن، هذا التقاطع نفسه الذي حصل في التمديد لمجلس النواب والذي يدرك العماد عون أنّ «حزب الله» كان في طليعة المؤيدين للتمديد النيابي، وبالتالي هل كان هدف الحزب كسر عون؟
إطلاقاً، ولكنّ المصلحة العليا للحزب قضَت بالتمديد، والسؤال نفسه ينسحب على «المستقبل»، بمعنى هل كان هدفه كسر عون أيضاً؟ بالتأكيد كلا، حيث انّ ايّ طرف لن يُبدّي أولوية غيره على أولويته ولو كانت تتعارض مع مبدأ الديموقراطية والالتزام بالدستور.
وما يجدر قوله أنّ «حزب الله» فعل المستحيل لعون في المواجهات التي لا تتعارض مع أولوياته، من الانتخابات النيابية إلى تسليمه مفاتيح المفاوضات في تأليف الحكومات التي لا تتشكّل إلّا بعد قبوله وموافقته، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التي جَمّدها الحزب بطلب من عون.
ومن هنا القول إنّ «حزب الله» تخلّى عن العماد عون غير صحيح، ولكن على عون بالمقابل ألّا يُحرج الحزب بخوض مواجهات لا يستطيع الذهاب معه فيها إلى النهاية. فهو يدعمه حيث يستطيع، ولم يقصِّر على هذا المستوى، ومن مسؤولية عون الوقوف على رأي الحزب قبل خوض أيّ مواجهة من أجل أن يتّفقا على حدودها وسقفها.
ومن مسؤولية عون أيضاً تقدير اللحظة السياسية للحزب، لأنّ خوض مواجهات عشوائية تحوِّل الحليف المسيحي إلى عبء على بيئة المقاومة التي أولويّتها اليوم الابتعاد عن أيّ مواجهة مع السنّة في لبنان، والحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني، وذلك من أجل التفرّغ للحرب السورية.
فالعماد عون ينجح في تحقيق خرق ما في اللحظة التي يوفِّق فيها بين أولويته وأولوية «حزب الله»، ويفشل عندما تتعارض أولويته مع أولوية الحزب. وهذا ما دلّت عليه التجربة أقلّه، والذي يدخل في السياق المنطقي والمبرّر. ومن هنا اللعب على وتر التناقض بين الحليفين هو من دون أفق، فيما المطلوب من رئيس التيار العوني أن يضع الماء في نبيذه.
فصحيح انّ «حزب الله» يعطي العماد عون حق الفيتو على تخريج التشكيلات الحكومية بما يضمن حصته داخلها، ولكن قرار تأليفها ليس بيد عون، إنما هو بيد «المستقبل» و«حزب الله» ومن خلفهما الرياض وطهران، والأمر نفسه ينسحب على رئاسة الجمهورية التي ما زالت خاضعة للفيتو الممنوح من قبل الحزب لعون، ولكن في اللحظة التي يحصل فيها التوافق السعودي-الإيراني على الملف الرئاسي يسقط هذا الفيتو تلقائياً ليتحوّل بالكاد إلى مراعاة عون باختيار الشخصية التي ستتبوأ موقع الرئاسة الأولى. ولكن هذا ليس مضموناً.
فبعد الانسحاب السوري في العام ٢٠٠٥ أصبح لبنان تحت النفوذ السعودي-الإيراني، ولم يفلح «حزب الله» بوضعه حصراً تحت النفوذ الإيراني بعد إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، حيث جاءت الأحداث السورية والصعود السني ليعيدا إحياء معادلة النفوذ السعودي-الإيراني ويجعلا لبنان محكوماً بالتوازن السني-الشيعي.
وهذا التوازن بالذات هو الذي حكم المرحلة الممتدة منذ العام 2005، وقد أنتج حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى واتفاق الدوحة وحكومة السنيورة الثانية وحكومة الرئيس سعد الحريري، ولكن باستثناء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
كما أنتج الانتخابات النيابية في عامي 2005 و2009، وقضى بالتمديد النيابي الأول والثاني، والتمديد العسكري الأول والثاني. وبمعزل عمّا إذا كان هذا الأمر صحياً أم لا، إنما هذا هو الواقع، وقيادة الجيش لا تشذّ عن القاعدة المتصلة بالانتخابات الرئاسية والنيابية وتأليف الحكومات، كونها من المواقع السيادية الأساسية والحساسة.
فالعماد عون يستطيع أن يحقّق أهدافه تحت سقف التوافق السني-الشيعي، ولكن ليس في مواجهة هذا التوافق. وبالتالي، تأجيل التسريح ليس موجهاً ضد عون، إنما هو انعكاس لرغبة دولية بالاستقرار تقاطعت مع رغبة سنية-شيعية.
وإذا كان عون قد رَحّل تصعيده العملي من السبت إلى يوم آخر يحدده في الوقت المناسب، فمن الأولى له لو يطوي هذه الصفحة التي انعكست سلباً عليه، وذلك تخفيفاً لضررها اللاحق، وينكبّ على إعادة صياغة تحالفاته وصداقاته وخريطة طريقه السياسية، خصوصاً انّ علاقته مع «القوات اللبنانية» قائمة ومستمرة، والعلاقة مع «المستقبل» مُمكن ترميمها، لأنها ما زالت دون السعودية والرئيس سعد الحريري، كما العلاقة مع بري وفرنجية، لأنّ حضوره السياسي القائم من دون مِنّة من أحد يترجَم بالحوار لا بالأقدام.