ليس هناك أفضل من بريطانيا في الوقت الراهن، ساحة يمكن أن نقرأ فيها تداعيات الخيارات السياسية المطروحة للناخب والمتحزب البريطاني. لكن قبل كل شيء، على حزب المحافظين الحاكم، أن يتقدم بالشكر اليومي لزعيم حزب العمال المحتمل جيرمي كوربن، على إمكانية نجاحه في هذه الزعامة. ذلك باختصار يعني بقاء المحافظين وحدهم في حكم البلاد على الأقل عشر سنوات أخرى مضمونة. لكي تنجح، حاول أن تشجع خصمك للغوص بمفرده، ذلك يوفر لك الجهد، ويضمن لكل مقارنات ستصب في مصلحتك في النهاية، بصرف النظر عن الأخطاء التي ترتكبها أنت. دوي التطرف، أعلى دائما من دوي السقوط، خصوصا بعد أن تم تجريب كل الأشكال والاتجاهات، من يمين التطرف إلى تطرف اليسار إلى “سماحة الوسط”.
يقول هاري براون السياسي والمحلل الاستثماري الأمريكي الراحل “اليساريون يأخذون حريتك، باسم الأطفال ومحاربة الفقر. واليمينيون يأخذونها باسم القيم الأسرية ومحاربة المخدرات. وفي كلتا الحالتين الحكومة تتضخم وأنت تصبح أقل حرية”. هذا بالنسبة لليساريين واليمينيين العاديين، فكيف الحال بالمتطرفين منهم. في بريطانيا خسر المحافظون في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن ظنوا أنهم ماضون في حكم البلاد لعقود مقبلة. والسبب أنهم اتجهوا نحو اليمين بتطرف، وطرحوا مبادرات ومشاريع قرارات، تحوي أن بريطانيا ستعزل نفسها ليس فقط عن شركائها الأوروبيين بل عن العالم أجمع. أتى توني بلير العمالي وقلب الطاولة على رأسهم، ولكن ليس قبل أن ينهي كل نفوذ لليساريين المتطرفين في حزبهم. أي أن بلير نجح من جهة الوسط لا اليمين ولا اليسار.
ببساطة، إن التطرف نحو اليمين أو اليسار في الحزب الواحد، بصرف النظر عن نوعية هذا الحزب، يبقى أفضل وصفة لضمان تدمير ذاتي للحزب نفسه.
أتى اليمينيون البريطانيون باقتصاد سيئ للغاية، ساهم بشكل مباشر في إنهاء وجودهم في الحكم. كان لا بد من فترة زمنية لإزالة آثار هذا الاقتصاد، رغم كل جهود الإصلاحيين في حزب المحافظين. وحين اصطاد بلير السلطة منهم، طرح اقتصادا جذب حتى اليمينيين المعتدلين في حزب المحافظين، ومنهم رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون. لقد استطاع اقتصاد توني بلير المعتدل، أن يحرك آليات نسيان ما حدث على أيدي حكومات العمال في القرن الماضي. وفي الوقت نفسه أنعش ذاكرة أولئك الذين عانوا “عنجهية” اقتصاد اليمين المتجه نحو التطرف. من ضمن الأسباب التي دفعت بلير إلى النجاح، أنه حقق انتصاراته على زملائه اليساريين المتطرفين، ليس سياسيا فحسب بل على صعيد مبادئ الحزب. ماذا فعل؟ أنهى البند الرابع الذي قام عليه الحزب، والذي ينص على حتمية امتلاك الدولة وسائل الإنتاج والخدمات.
أثبتت خدمات الدولة ووسائل إنتاجها الفشل الذريع ليس على مدى فترة زمنية قصيرة، بل مدة طويلة جدا. كما أثبتت معايير السوق المفتوحة بلا رحمة فشلها الذريع في أشكال عدة. رحل العمال عن الحكم ليأتي المحافظون بسياسة اقتصادية هي مزيج ناجح من أخلاقيات اليسار وواقعيات اليمين، ساعد ذلك وجود حكومة ائتلافية ضمت حزب الأحرار الذي شكل بصورة أو بأخرى “الضمير” الاقتصادي للحكومة. ومع وصول المحافظين بمفردهم إلى الحكم، وجد ديفيد كاميرون أنه من الأفضل الاستمرار بالسياسة الاقتصادية السابقة نفسها، لأنها أقرب إلى العدالة الاجتماعية الكاملة، وبعيدة عن التطرف في كل شيء. وحكومة كاميرون مرتاحة الآن، لا تهديد لها من جانب حزب له قيمة سياسية في الوقت الراهن، ولا أثر لمتطرفي المحافظين على الساحة الاقتصادية.
والخدمة الأكبر التي ينتظرها ديفيد كاميرون الآن أكثر من أي شخص على وجه الأرض، هي تلك التي قد تأتي من حزب العمال المعارض نفسه بانتخاب جيرمي كوبرن زعيما له. ماذا سيفعل هذا الأخير؟ سيقوم على الأرجح، بإعادة العمل بالبند الرابع الملغى، وضمان بقاء حزب العمال في المعارضة ربما لعقدين أو أكثر. لا يريد المتطرفون من كلا الجانبين أن يعترفوا بأن اليمين السيئ لا ينتج إلا اقتصادا سيئا، وبالتالي لا يلبث أن يصبح خارج دائرة الضوء الانتخابي. الأمر نفسه ينطبق على أولئك الذين يحبون اليسار السيئ. اليمين السيئ يقول: لا يوجد مجتمع! واليسار السيئ يقول: لا يوجد مكتسبات خاصة! وبما أن المؤشرات (حتى الآن) تدل على أن العمال سائرون في اختيار كوربين زعيما لهم، ليس هناك قلق لدى كاميرون، سوى ما ورط نفسه به، وهو الاستفتاء حول وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
غير ذلك، سيشهد المحافظون الذين يحكمون حاليا، مزيدا من الدمار الذاتي لحزب العمال، وليس هناك أجمل من هذا الدمار بالنسبة لهم، ولا أمتع من متابعته. لا داعي لسياسة اقتصادية تدحض ما سيقدمه العمال إذا ما ساروا في طريق كوربن وتياره اليساري المتطرف جدا. إن اقتصاد هذا الأخير يحمل معه حزامه الذاتي الناسف. وفي كل الأحوال لن يقتل إلا نفسه.