كتبت كلير شكر في صحيفة “السفير”:
رحلة جعجع المسيحية إلى السعودية!
صار من الصعوبة اتهام سمير جعجع بالتعامل مع الملف المسيحي، وتحديداً في ما يتصل بعلاقته بـ«التيار الوطني الحر»، بعقلية الماضي من دون حاضره، أو بشيء من الحقد المزمن الراغب فقط في إلغاء الظاهرة البرتقالية ومفاعيلها السياسية، أو بعقدة تغليب مصلحة الحلفاء، وبالأخص «التيار الأزرق»، على ما عداها من الاعتبارات، وتحديداً على حساب خلق خطّ التقاء مع هذا الفريق.. لضمان المستقبل والمصالح المشتركة.
لم يقصد الرابية يوم تقديم «إعلان النوايا» للرأي المسيحي، عن عبث ولا من أجل كسب صورة حبيّة مع خصمه التاريخي تزيل جبالاً من الجليد تبعده عن الجمهور العوني، لا بل لأنّ المعطيات تكدست على مكتبه وأنذرته بأنّ الآتي من الأيام سيكون مخالفاً كلياً لما سبقها.
عملياً هي المتغيّرات الإقليمية التي تدفع برجل معراب الى تقصير المسافات بين وبينه الجنرال ميشال عون، رغم كل ما يبعد بينهما، ولا يزال، من خلافات سياسية بمقدورها أن توقفهما من جديد في خنادق المواجهة.
لكن سمير جعجع لا يفعلها. يمكن له، لو أراد، أن يختار يومياً مادة خلافية من كومة التباينات بينه وبين العونيين، وما أكثرها، استراتيجياً وتكتيكياً، ويقف بها على المنبر للتصويب صوب المتراس العوني.
طوال السنوات الماضية تكفّل الرجل بأن يكون صوت فريقه الآذاري الصارخ في البرية البرتقالية للنيل من جنرالها، فيكون تارة وكيلاً عن أصيل في الهجوم، وطوراً في مقدمة القافلة. كل ذلك في سياق دور اختاره لنفسه ضمن منظومة الأدوار التي وزّعها الآذاريون على أنفسهم.
بعد التفاهم مع العونيين تغيّر الوضع. ما عاد منبر معراب يصدح عند كل شاردة وواردة لها علاقة بـ«تكتل التغيير والإصلاح»، وإنما بدا الرجل متأنياً في اختيار إطلالاته ومواقفة، خصوصاً إذا كان لها علاقة بـ«التيار الوطني الحر». حتى أنه ولسخرية القدر، يُمنع على «القواتيين» التعاطي بالاستحقاق الداخلي لـ«التيار الوطني الحر» من باب احترام الخصوصية.
هكذا مثلاً نأت «القوات» بنفسها وبشكل ملحوظ عن إشكالية التعيينات العسكرية بينما غطست الأكثرية الحكومية حتى أذنيها بمشروع التمديد، وما سبقه من طروحات تحاول الالتفاف على المأزق المتوقع، على قاعدة تقاعده من مهمة التصدّي للجنرال، أخذ «الحكيم» مسافة من صراع التمديد ـ التعيين واكتفى بالرسائل المكتومة التي كان يوجهها لمن يهمه الأمر ولمن يسأله عن رأيه.
ولكن جعجع لم يغفل المسار الذي اعتمده رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» لتحقيق أجندته. وانما كان موضع رصد واهتمام من جانب «المعرابيين»، لقياس ردات الفعل من جانب كل المعنيين، سواء كانوا خصوماً أو حلفاء، ولسبر أغوار الرؤوس ومعرفة ما في أعماق الأذهان.. كيف يفكر الجالسون قبالة ميشال عون وماذا يخططون.
ما كانت كل هذه المؤشرات والاعتبارات تثير اهتمام سمير جعجع بتفاصيلها المملّة، لو أن الظروف السياسية في سياقها الطبيعي. في تلك الحالة كان يمكن للرجل أن يتفرج منشرح الصدر متابعاً مسلسل كسر خصمه الشرس في أوج المعركة الرئاسية، وما يعني ذلك من تدنٍّ لحظوظه وتراجع لموقعه.
لكن تباشير الاتفاق النووي وما تلاه من وشوشات صارت أحداثاً متسارعة لتغيير جذري قد تشهده المنطقة على وقع تبدّلات منظومة العلاقات الدولية، قلَب الأولويات رأساً على عقب. وصار لكل مشهدية لبنانية، سواء كانت انتصاراً لفريق أو هزيمة لآخر، حساباتها وقراءاتها الجديدة.
هكذا تُفهم رسائل الدعم المعنوي التي حمّلتها معراب البريد السريع لكي يصل آذان الجنرال فوراً ومن دون مواربة. قيل للرجل كلامٌ من نوع إنّ «القوات» لا تقبل بأن يهزم الزعيم المسيحي بهذا الشكل، لا بل تقتضي مصلحتها بأن يُراعى الرجل ويُحافظ على مكانته، بحيث لا تكون النهاية «واحد ـ صفر».. كما حصل في نهاية جولة التمديد.
وأكثر من ذلك، تلقّى الجنرال نصائح جدية من جعجع كي لا يكون الهدف المسجّل في مرماه، سبباً إضافياً لمزيد من التخبّط في الأداء يُضاف الى الوعكات السابقة.
قد يرى البعض هذه الرسالة شيئاً من المجاملة والوقوف على الخاطر، طالما أنّ هذا الموقف لا يرتّب على «القوات» أي حِمل أو ثمن، وطالما هو منقول بالحقيبة الديبلوماسية غير الخاضعة لتفتيش الإعلام وميكروفوناته. ولكن المواكبين لهذا الأمر يقولون أكثر من ذلك.
بنظرهم إنّ المسألة تتخطى هذه الاعتبارات الشكلية الى ما هو أكثر أهمية. إنّ كسر ميشال عون في هذه اللحظات المصيرية التي يُعاد فيها رسم خارطة النفوذ في المنطقة، لن يطال فقط العونيين أو يضعفهم وحدهم، وإنما سيكون كل المسيحيين عرضة لهذا الفيروس الذي سيتسلل الى عروق أبناء الكنيسة ويحولهم الى طبق على مائدة الكبار بدلاً من أن يكونوا شركاء في الطبخة.
وفق هؤلاء، فإنّ سمير جعجع يفكر في نفسه وفي ما ينتظره من الأقربين قبل الأبعدين، حين يُبدي خشيته على خصمه اللدود. وهذا لا يشمله فقط، لأنّ هناك غيره من المسيحيين المستقلّين أو الحزبيين السابقين الذين يجارونه المنطق ذاته، ولهم الحسابات عينها، وينتهون الى خلاصة مشتركة: إضعاف ميشال عون يعني إضعاف كل المسيحيين.
ولهذا، لم يعد مستغرباً إذا اندفع ابراهيم كنعان وملحم رياشي باتجاه تعزيز «إعلان النوايا» وتمتين أساساته. ولن يحصل ذلك طبعاً الا اذا تمكن الفريقان من تجاوز كل المطبات والمقاربات الضيقة، لتوحيد رؤيتهما من قانون الانتخابات، والاتفاق على مشروع موحّد يكون حجر أساس لمشروع مشترك يضمّ كل القوى المسيحية، ويُحرج بقية الأطراف…
وإلا فإنّ نجاح منظــومة المصــالح السوريالية التي تحكم لبنان منذ «الطائف»، في ما تخطّط له، صار مضموناً.