رأى وزير العدل السابق شارل رزق أن “الكلام في الكبار، بعد رحيلهم، قد يفيهم بعض حقّهم وبعض الدين الذي استلفناه من عطاءاتهم، لكنّه بالتأكيد يعيد الضوء الى تلك المنارات في تاريخنا، كي تهتدي بها الأجيال الطالعة التي لم يتسنّ لها معاصرتهم”.
رزق، وفي كلمة خلال أطلاق مؤسسة سيمون بولس “جذور” الموقع الالكتروني الخاص برجل الدولة والمؤرخ الاهدني الاستاذ جواد بولس في حفل عشاء اقيم في منتجع كاونتري كلوب في اهدن، أضاف: “جواد بولس من أبرز المنارات الهاديات في تاريخنا، ليس للبنان فحسب، بل لكل منطقة الشرق الأدنى، ومنها الى الشرق الأوسط والعالم العربي. باحثا في أصول الشعوب، تاريخا وجغرافيا، وفي مسارات تكوينها وعلاقاتها، مستخرجا الخلاصات التاريخية العميقة التي تسيّرهذه المنطقة على منظومة التفاعل الحضاري، وضوابط العلاقات والصراعات”.
وتابع: “بين اللبنانيين الكبار الذين تألفت منهم النخبة الفكرية والسياسية في بلادنا منذ اعلان لبنان الكبير عام 1920 احتّل جواد بولس موقعا فريدا. فهو لم يمارس االسياسة العملية الّا مدة قصيرة في الفترة الانتقالية بين عهدي الانتداب والاستقلال كوزير للخارجية. وبعد ذلك اختار الابتعاد عنها، ونذر نفسه للبحث في مجال التاريخ وعلم السياسة، وهو المعين الذي يجب أن ينهل منه الطامحون الى العمل العام”.
وقال رزق: “لقد أصبحت مؤلفاته مراجع ثمينة، قدّم لها المؤرخ البريطاني العظيم أرنولد طوينبي Arnold Toynbee واسشهد بها كبار الباحثين العرب والاجانب، واختتار جواد بولس الثابت على المتحوّل واللباب على القشور في كتبه الغائصة في التاريخ والجغرافيا، وتوصّل الى ضبط القواعد التي تحكم العلاقة بين الكيانات والمكوّنات، فاذا بها تنتظم بين الحضارتين التاريخيتين الكبيرتين: حوض النيل وبلاد ما بين النهرين”، مشيرًا الى أن “الأهم والابقى والارقى في فكر جواد بولس ومسيرته الثقافية التربوية هو ما اعطاه للبنان من قيمة مميزة ومضافة بين أممم المنطقة وكياناتها، فقد جعله في موقع متقدّم، ليس فقط بميزته الجغرافية كواسطة العقد ، بل بفرادته الانسانية والاجتماعية والثقافية على جدلية الاختبار العظيم بين مكوناته وتفاعلها، وعلى ثنائية ما سمّاه “حلف الجبل والبحر”!.
وتابع: “للبنان، في عقل جواد بولس وايمانه، مكانة خاصة في تفعيل العلاقات بين شعوب المنطقة ودور خلاق في انبعاثها ونهضتها، وقد تجلّى هذا الدور قبل أن يولد “لبنان الكبير”سنة 1920، فجذور هذا الدور تعود قرونا الى الوراء وجاءت نهضة القرن التاسع عشر ثمرة من ثماره”، لافتا الى أن جواد بولس آمن بلبنان نموذجا حضاريا وسياسيا، قائما على وحدة الطوائف وتعايش الاديان، تحافظ على شخصيتها وثقافتها لتتجاوزها الى وحدة وطنية ليت جميع دول المنطقة تتمثل بها، وكان يؤكد دائما أنّ لبنان، على اختلاف الفئات التي يتألف منها، وربما بسببه سوف يبقى ويستمر رغم التقلبات التي يشهدها الشرق الأوسط المحيط به. بل آمن أن لبنان يشكّل التحدّي في وجه الطامعين الاقليميين به. وها هي الاحداث الراهنة تثبت بعد غيابه صوابية رؤيته”.
وأردف رزق: “أصاب جواد بولس لأنه لم يكتف كسواه ممّن يدّعون درس التاريخ بحصر دراسته في الحدود اللبنانية الضيقة،بل تجاوزها ونظر جواد بولس دائما الى لبنان ضمن الاطارين الجغرافي والزمني الواسعين. وركزّ بشكل خاص على الصراع التاريخي بين وادي الفرات وأبعاده العراقية والفارسية وبين وادي النيل وأبعاده المتوسطية.فهو بدأ كتاباته في خمسينيات القرن الماضي، وراى على سبيل المثال في النزاع بين حلف بغداد الذي أطلقه آنذاك رئيس الوزراء العراقي نوري السعيدي بالتنسيق مع شاه ايران ومشروع االقومية العربية للقائد المصري عبد الناصر فصلا” أخيرا” من الصراع بين ملوك بابل وفارس وفراعنة مصر الذي انتظم حوله تاريخ المنطقة منذ القدم. ما أكدّ المقولة التي كان يرددّها جواد بولس: سنّة التاريخ أن يعيد نفسه وأن لا رؤية مستقبلية لمن يجهل الماضي. وقد سمعته مرارا” يستشهد بهذه الكلمات البليغة للجنرال ديغول On se souvient de l avenir””علينا أن نتذكّر المستقبل”، ما يعني أن المستقبل هو، الى حد بعيد، تكرار لللماضي ، وبالتالي فان الالمام بالتاريخ هو خير اعداد للقيادة السياسية، وأن من ليس ملّما بالتاريخ ليس أهلا للتعاطي في الشأن العام”.
وتابع: “وكم من مرة سمعته يستشهد بهذه الكلمات لعالم التاريخ الفرنسي الكبير Jacques Bainville Un home politique qui ne connait pas l ‘histoire est comme un medecin qui n a jamais ete a l’hopital رجل السياسة الذي لا يلم بالتاريخ هو كالطبيب الذي لم يزر يوما المستشفى، كما كان يردّد دائما:”La politique est fille de l’histoire comme l’histoir est fille de la geographie et la geographie ne change jamais السياسة ابنة التاريخ كما التاريخ ابن الجغرافيا و. والجغرافيا لا تتغيّر أبدا”.
وختم رزق: “تعودني هذه الذكريات بتأثّر كبير لأن ظروفي العائلية شاءت ان أتعرّف الى جواد بولس منذ صغري ومنحتني شرف التقرّب الى شخصيته الاستثنائية التي كانت مزيجا” فريدا” من الوقار واللطف والوداعة. وأتذكّر السنوات التي كنت أتابع دراستي الجامعية في باريس وأعود الى لبنان في عطلة الصيف وألتقيه. أتذكّر حرصه على معرفة أسماء أساتذتي في باريس وهو يعرف معظمهم ويطّلع على مؤلفاتهم ويشجعني على الاستفادة من علمهم وخبرتهم، فكنت اثمّن ارشاداته وتوجيهاته بقدر ما كنت أقدّر دروس أساتذتي الفرنسيين، فلكل هذه الأسباب أعتز بوقوفي بينكم هذا المساء احياء لذكرى اللبناني الكبير جواد بولس وأشكر وريث اسمه صديقي جواد الثاني على دعوتي، كما أتذكر بكثير من التأثر والده العزيز المرحوم الشيخ سيمون الذي أحببت بقدر ما أحب الشيخ روبير الجالس بيننا اليوم متمنيا له دوام الصحة والعمر”.