IMLebanon

تنمية اقتصادية بلا مشاركة في مصر: جدوى تجريب المجرّب!

Egypt-Economy-Growth
وحيد عبدالمجيد
تجدد اهتمام الأحزاب السيـــاسيــــة والعــائــلات الكبرى وشبكات المصالح بالانتخابات النيابية المتعثر إجراؤها في مصر منذ نحو عام. لم يصل الاهتمام بعد إلى معظم فئات المجتمع، وليس متوقعاً أن يبلغ الكثير منها. لذلك ربما يكون الاقتراع في هذه الانتخابات المرجح إجراؤها قبل نهاية العام الجاري في أدنى مستوياته، بعدما حقق معدلاً قياسياً في انتخابات 2011 حيث أدلى نحو 60 بالمئة من الناخبين بأصواتهم.
فقد تراجع الطلب الشعبي على السياسة عموماً لأسباب أهمها تواتر حملات منظمة تفسر تفاقم الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية بزيادة هذا الطلب قبيل ثورة 25 يناير وبعيدها، وفقدان قطاع يُعتد به في المجتمع الثقة بجدوى العملية الانتخابية. وهذا فضلاً عن طابع نظام الحكم الذي يفضل مشاركة شعبية سلبية تقتصر على التأييد والمساندة بدل المشاركة الإيجابية عبر حياة سياسية نشطة، كي تكون للسلطة التنفيذية حرية حركة واسعة لم تتمتع بمثلها منذ الستينات.
وانعكست هذه الأجواء في ارتباك التحضير الذي طال أمده للإنتخابات النيابية منذ انتهاء الإنتخابات الرئاسية منتصف العام الماضي. وعلى رغم نقمة كثير من الأحزاب التي تؤيد الحكم، ويُفرط بعضها في تأيـيده، بسبـب طريقة إدارة عملية الإعداد للإنتخابات، فقد عزمت على المشاركة فيها وهي تعرف أن حصتها في البرلمان الذي ستسفر عنه أقل بكثير مما سيُتاح لأصحاب الأموال والعصبيات العائلية والعشائرية وذوي النفوذ المحلي في مناطقهم.
كما ساهم كثير من هذه الأحزاب في تحويل الانتخابات ساحةً للمزاودات الوطنية، إذ فُتح ما يشبه مزاد على إقحام اسم مصر فيها من دون أن يعرف أحد ما سيعود على مصر الحقيقية منها. فقد حملت القوائم أسماء مثل «في حب مصر» و «صحوة مصر» و «نداء مصر» و «الجبهة المصرية»، وغيرها.
وتبدو الأحزاب التي تُسمّى «مدنية» من أهم ضحايا هذه الحالة، نتيجة التهميش الذي تعرضت له، وما اقترن به من اختلال في توازنها، وضعف في أدائها، وبعدما قبل الكثير منها فعلياً الشعار الذي لم يُرفع بنصه بل بمضمونه، وهو أنه: لا صوت يعلو فوق صوت الحرب على الإرهاب.
وأصبحت هذه الأحزاب مهددة بخسارة نفسها، بعد خسارة الكثير من حضورها في المجتمع، في ظل «الجفاف السياسي» الذي يتوسع نطاقه، ووقوعها أسيرة الاستقطاب الحاد الذي دفعته قيادة جماعة «الإخوان المسلمين» إلى النهاية.
غير أنه إذا كان تراجع الطلب الشعبي على السياسة كشف مدى عمق أزمة الأحزاب، فهو يُمثل معضلة غير مرئية بعد لنظام الحكم، بخلاف ما يبدو لأوساط فيه ترتاح إلى هذا التراجع، وتميل إلى تكريس «الجفاف السياسي»، وتستهين بأهمية المشاركة الشعبية الحرة في حمل تركة مهولة في ثقلها.
فكلما كان الحمل الموروث ثقيلاً، صارت الحاجة إلى توسيع نطاق المشاركة في رفعه أكبر. والحال أن التركة المترتبة على تجريف الاقتصاد والمجتمع لعقود عدة لا يمكن أن يحملها نظام حكم بمفرده مهما كانت قدراته. فإذا كانت المشاركة الحرة مهمة في مواجهة مشكلات عادية في ظروف طبيعية، فهي أهم حين تكون الأزمات متراكمة وثقيلة، وبخاصة في مرحلة اضطراب إقليمي تموج فيها المنطقة بصراعات صفرية وحروب أهلية. لكن هذه المشاركة لا تتحقق بشكل فردي، ولا تقتصر على التبرع لصندوق مثل «تحيا مصر»، ولا يكفي فيها اكتتاب لتمويل مشروع كبير أو آخر.
وهذا كله مهم، لكنه لا يكفي لتحقيق تنمية ناجحة انطلاقاً من الإنجاز الذي تحقق في مشروع قناة السويس، والمشاريع التي ستقام في المنطقة المحيطة بها. فالمشاركة المطلوبة هنا ترتبط بتنامي دور المنظمات الوسيطة الحزبية والمدنية، التي ينشط من خلالها الناس على كل صعيد، بما في ذلك العمل الاقتصادي الجاد والشاق.
ومن شأن انتعاش العمل السياسي وتوسع نطاق المشاركة أن يحوّل الخطاب الذي يطالب الناس بالصبر والتضحية والعمل الشاق من كلام مكرر إلى واقع معاش. وهذا درس من دروس تحفل بها تجارب شتى في العالم، وفي مصر نفسها. لذلك يبدو مدهشاً إغفاله على رغم أنه يمثل حصيلة ما جُرب في العالم مراراً وتكراراً في مجال العلاقة بين التنمية والمشاركة الشعبية.
ولا يحول ضعف الأحزاب دون فتح المجال العام لتشجيع مختلف مكونات المجتمع السياسي والمدني على المشاركة الإيجابية. وفضلاً عن أن الأحزاب لم تتطور في ظروف طبيعية في أي وقت منذ نشأتها الأولى في مصر عام 1907، فالسياسة ليست مجرد أحزاب بل ثقافة فحواها وجود مجال أو حيز عام يتوجب على الإنسان الاهتمام به.
وربما لا يدرك من يشجعون تجفيف منابع السياسة في المجتمع مجدداً بدعوى أنها تعوق العمل التنموي، أنهم ينزعون من معظم الناس اهتمامهم الإيجابي بالقضايا العامة ودورهم فيها، ويُحوّلونهم ذراتٍ متناثرة يُفوض كل منها أمره إلى نظام حكم لا بد أن ينوء كاهله في النهاية بحمل مهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية. وتدل دروس التاريخ الحديث على أن من يضيقون ذرعاً بالسياسة وما يقترن بها من مشاركة إيجابية، ويضعونها في تناقض مع السعي إلى إنجاز تنمية اقتصادية، لا يحسبون عادة حساب العلاقة الوثيقة بين اتجاهات الفرد وطبيعة المجتمع. كما لا ينتبه من يُحبذون مجتمعاً منزوعة منه السياسة إلى أن أجهزة السلطة لا تستطيع ملء الفراغ السياسي، ولا يكفي الاعتماد عليها لتحقيق التنمية المنشودة. كما يشجع هذا الفراغ بعضها على تجاوز حدوده، فتصبح جزءاً من المشكلة وليس من الحل.
وفي غياب السياسة والمشاركة الحرة، يصبح نظام الحكم معلقاً في «عُلاه»، ويتفتت المجتمع فعلياً على رغم مشهد «الاصطفاف» الذي تخلقه سياسة التعبئة من أعلى، ويزداد الشعور بالضياع في أوساط قطاعات متزايدة من أجياله الجديدة.
والحال أنه في كثير من الأحيان تتسبب حسابات خاطئة في إحباط توجهات صحيحة. وفي غير قليل من الأحيان، تؤدي الاستهانة بالمشاركة الإيجابية إلى إضعاف القدرة على تحقيق التنمية، حتى لو بدا الأمر غير ذلك في لحظة أو أخرى. وليس هذا إلا بعضاً من دروس تاريخ يُعلّمنا أن الإنجاز الاقتصادي الكبير في مختلف المجالات يرتبط بمشاركة سياسية واسعة على مختلف المستويات.