Site icon IMLebanon

المدفوعات الخارجية كمؤشر على العلاقة الصعبة بين السياسة والاقتصاد في لبنان

LebanonEcoMoneyLira

الوضع الطبيعي في أي بلدٍ من بلدان العالم هو أن تكون العلاقة بين السياسة والاقتصاد إيجابية وبنّاءة. فالسياسة بما هي العمل من أجل المصلحة العليا للبلد، وبما هي ممارسة سلطة الدولة لمصلحة الناس أو لغالبيتهم، وقد سمّوا من خلال العملية الانتخابية ممثليهم في السلطة، هذه السياسة يفترض المرءُ أن تشجِّع وتحفِّز النشاط الاقتصادي، أن تُرسي سياسات اقتصادية ومالية، من شأنها أن توسِّع مجالات وفرص العمل للقادمين إلى سوق العمل، وبخاصة من الشباب والمتخرجين من الجامعات، سياسات ترفع من حجم المداخيل المرتبطة بالعمل، كأفضل مقاربة لمكافحة الفقر والتهميش. سياسات تطوِّر البنى التحتية بما يخدم نمو الاقتصاد، واندماج المناطق في بلدٍ رقعته الجغرافية صغيرة بكل المقاييس، سياسات تشجِّع أخيراً الاستقرار المالي في البلد، ومنها بخاصة إقرار الميزانيات العامة قانوناً وإقرار القوانين والتشريعات المتعلّقة بمكافحة الجرائم المالية، ناهيك عن مشاريع القوانين للقروض والهبات المنسيّة في أدراج المجلس النيابي، بقيمة تزيد عن 1250 مليون دولار (!) يقابلها ما يزيد عن 1300 مليون دولار قيمة الإصدارات الجديدة التي تحتاج إلى إجازة المجلس لها، فتغطّي استحقاقات الخزينة بالعملة الصعبة حتى نهاية العام 2015، فلا تضطرّ وزارة المالية للّجوء إلى مصرف لبنان لسداد ما يستنزف احتياطيّاته بالعملات الأجنبية، أكثر مما هي مستنزفة بفعل الأوضاع السياسية القائمة محلياً وفي محيطنا الإقليمي!.. وقد اضطرّ مصرف لبنان، لعلم أهل السياسة، إلى تمويل العجوزات المتراكمة في ميزان المدفوعات لفترة 2011 – حزيران 2015 بما مقداره 7388 مليون دولار! ولعلمهم كذلك يستمرّ العجز الهائل في الميزان التجاري، حيث استورد لبنان في العام 2014 على سبيل المثال لاستهلاكه بما يفوق الـ 21.2 مليار دولار، وصَدَّر بأدنى من 4 مليارات. أي أن لبنان لا يغطّي بصادراته سوى 18.4 في المئة من وارداته السلعية. وهل تساءَل السياسيون عندنا كيف نسدِّد سنوياً هذا العجز الهائل (أكثر من 17 مليار دولار!). تتّم بالحقيقة تغطيته جزئياً من خلال فوائض حسابات الخدمات ومداخيل شركاتنا وتحويلات اللبنانيّين العاملين في أنحاء المعمورة، والتي تبلغ صافيةً في مجملها 4.5 مليارات دولار، ما يترك عجزاً جارياً يفوق 12 مليار دولار للعام 2014 وحدَهُ، حسب مصرف لبنان وصندوق النقد، وهو ما يسمّى في لغة الاقتصاديّين Current وصندوق النقد الدولي العجز الجاري لمدفوعات لبنان الخارجية. Account

إن ظهور هذا العجز على مدى السنوات الخمس الماضية (2011-2015) يؤشّر إلى ضعفٍ في مبادلات لبنان مع سائر دول العالم، أي أن قدرة اقتصادنا التنافسيّة مع الخارج متدنّية وإنتاجية اقتصادنا متدنّية. ويؤشّر كذلك إلى عدم كفاية معدّلات الادخار الوطني. بكلامٍ آخر اللبنانيون، كبلد، ينفقون استهلاكاً واستثماراً (والحقيقة استهلاكاً!) أكثر مما ينتجونه في الداخل ومضافاً إليه ما يتلقَّونه من الخارج، أي من لبنان غير المقيم. ويؤشّر أخيراً العجز الجاري إلى حاجة البلد للاقتراض من الخارج بالعملات الأجنبية، وبأشكالٍ متعددة، لتغطية مبلغ الـ 12 مليار دولار سنوياً الذي أشرنا إليه أعلاه للعام 2014 مثالاً. ولوعي خطورة هذا العجز الجاري، فإنه يشكّل نسبة 24.8 في المئة ومن الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بـ 49.9 مليار دولار. ويعرف الاقتصاديون والمطّلعون على مجريات التبادل الاقتصادي بين الدول أن نسبة كهذه من العجز الجاري يصعب أن تعرفها دول العالم إلاّ ما ندر!!.. ذلك أنه ليس باستطاعة أي بلد أن يعيش فوق طاقة إنتاجه وقدرة اقتصاده وفوق المستوى الذي تسمح به مداخيله المتأتّية من الداخل بالإضافة إلى التحويلات المتلقّاة من الخارج.

ويتّم تمويل هذا المستوى من الإنفاق الوطني من خلال حركة الرساميل إلى لبنان، أي من خلال تراكم المديونية الخارجية بالمعنى الفعلي لهذا المصطلح، وتأخذ هذه المديونية الخارجية طوراً شكل الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي سجّلت للعلم تراجعاً خلال السنوات القليلة الماضية، مما يقارب 5 مليارات سنوياً إلى زهاء 2.0 مليار حالياً بفضل التجاذبات السياسية المستمرة والتي هزَّت الثقة بلبنان، ليس فقط من غير اللبنانيّين، بل وكذلك من أصحاب الرساميل اللبنانيّين. ويتأتّى كذلك تمويل العجز الجاري تارةً وبشكلٍ أساسي من ودائع غير المقيمين لدى المصارف العاملة في لبنان، والتي يقدّرها التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي بـ 6.4 مليارات دولار، آخذاً في الاعتبار ليس فقط المبالغ التي يُدرجها مصرف لبنان في الميزانيات المجمّعة للمصارف كودائع لغير المقيمين، بل وبخاصة جزءاً من ودائع المقيمين على أساس أن مصدر نسبة عالية منها هو مدّخرات اللبنانيّين غير المقيمين. وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من مصدرَيْ تمويل العجز الجاري المشار إليهما (الاستثمارات المباشرة وودائع غير المقيمين)، يستمرّ ميزان المدفوعات لدينا في تسجيل عجوزات منذ العام 2011 وحتى حزيران 2015 بلغت في مجموعها 7.4 مليار دولار. إن الاستمرار في هذا النمط من الاستهلاك للسلع المستوردة والقدرة على تمويله من خلال مدّخرات اللبنانيّين في الخارج، مع فرضية ديمومة هذه التدفقات إلى لبنان بالوتيرة والمستوى المطلوبين، يزداد صعوبةً عاماً بعد عام.

لقد بدأت فعلاً طلائع تراجع هذه التدفقات المالية إلى لبنان، كما يشير إليه بحقّ، تقرير صندوق النقد الأخير. ومسؤولية أهل السياسة في ذلك واضحة، فتجاذباتهم وانعدام فعالية المؤسسات الدستورية المشلولة عملياً تفاقم ليس فقط هجرة اللبنانيّين، بل وكذلك تدفّق رساميلهم إلى لبنان. نموذج تصدير البشر واستيراد الرساميل بدأ فعلاً يلامس حدوده. والمطلوب وعي أهل السياسة لهذا الوضع. تصحيح الاختلالات في مدفوعات لبنان الخارجية لا يكون فقط بعودة السياحة والاصطياف، ولا يكون كذلك بعودة الاستثمارات في المشاريع وفي الموجودات الأخرى أو في استمرار تدفّق مدّخرات اللبنانيّين إلى الجهاز المصرفي والمالي في لبنان، بل يتطلّب نموذجاً اقتصادياً مغايراً، يعتمد على قدرة الاقتصاد اللبناني على التمفصل بكفاءة مع الاقتصاد العالمي. إنها نقلة نوعية معقَّدة جداً وتحتاج إلى تضحيات هائلة وإلى تضافر جهود كلّ القوى صاحبة المصلحة في تطوير الاقتصاد والاجتماع في لبنان بعيداً عن أنظمة وآليات المحاصصة والفساد وكلفتهما العالية.

د. مكرم صادر

أمين عام جمعية المصارف في لبنان