مادونا سمعان
هنا، مازال التاريخ مستيقظاً. لم يغب، لم يمُت، لم يتحوّل إلى ذكرى. هنا، يصنع التاريخ الحاضر وربما المستقبل. يتدّخل في قوت صيّاد، وفي قصّة عشق، ويجلس جنباً إلى جنب مع سهارى الليل. هنا، يرتمي التاريخ على حصى الشاطئ ويخرج من جدران تلك المدرسة وذاك السور وتلك القنطرة. هنا يطلّ برأسه من كل شبر أرض يُحفر لتعبيد طريق أو لتشييد مبنى. هنا يصنع التاريخ مدينة ويزيد من شبابها كلّما تقدّمت في العمر. هنا جبيل.
على حافة الشاطئ، يرمي فادي صنّارته بانتظار السمك. لا يملّ ولا يكلّ من المحاولات المتكرّرة. يقول إنه يتفاءل بتلك المدينة، إن صيده دائماً وفيرٌ فيها، وإن «هدوءها علاج بحدّ ذاته».
فادي ليس صيّاداً محترفاً، على عكس جميل الذي يمتهن الصيّد، يكسب منه قوته بتعب وعناء، «لأنّ البحر ما عاد كما كان في السابق». يشكو من الإهمال الذي يطالهم كصيّادين ومن الإهمال الذي ينسحب على البحر كما على الأرض. يقول: «قامت الدنيا وما قعدت عندما غمرت النفايات الشوارع. طيّب ما النفايات بالبحر من سنين؟». هو مشتاق لوجبة «توتيا»، ثمرة البحر التي جعلها التلوّث منقرضة. لكنّ برأيه ليس الحق على المدينة ولا على أهلها، بل على الإهمال الذي تمارسه الدولة.
على ضفاف الميناء القديم، ترسو قوارب الصيّادين، وغيرها المعدّة للنزهات السياحية. وهي في الغالب تجذب اللبنانيين الآتين من مناطق غير ساحلية والسيّاح الأجانب. ومقابل الميناء تنتصب المطاعم المتخصصة بالأسماك وتحيط بها تلك التي تقدّم مأكولات عربية وأجنبية. حركتها لا تهدأ في هذه الفترة من السنة، إذ يشير مدير إحداها أنه «منذ نحو أربع سنوات وموسم الصيّف مثمر جدّاً، حتى أن العمل في أي يوم من بحر الأسبوع يشبه أيام العطلة والأعياد». هذا الأمر يحوّل ليل جبيل إلى صاخب جدّاً في ساحة «الأونيسكو» والسوق العتيق ومحيطهما، حيث تتاسبق المطاعم على تقديم أفضل أطباقها فتمتلئ الأمكنة بالضحك والموسيقى والقهقهات.
مطاعم جديدة
يجتاز صخب الليل سور المدينة القديمة ويصل إلى حدود المساكن والبيوت. وقد أدّت الحركة السياحية في السنوات الأخيرة إلى نشوء مطاعم عديدة، منها ما ينتمي إلى سلسلة ومنها المستحدث والمبتكر حتى في طريقة تقديم أطباقه. ووفق إحصاءات البلدية تمّ افتتاح نحو 15 مطعماً خلال السنة الحالية. لا يبدو أن إحداها يشكو من تخمة في القطاع. يقول وائل مدير مطعم للوجبات السريعة إن فرع جبيل من بين أقوى فروعهم، و «ويبدو أن هناك مكاناً للجميع شرط أن يطابق أعلى المواصفات لأن المنافسة عالية».
يشرح المدير أن لفرعه زبائن من الشباب كما في مناطق أخرى لبنانية، و «يكاد عددهم يضاهي عدد فرعنا في بيروت لو تنبّه صاحب السلسلة إلى استئجار مكان أكبر». اللافت أن حركة تلك المناطق تنكفئ لمصلحة مطاعم ومقاهي المدينة القديمة في النهار، لأن أهل جبيل، كقضاء، اعتادوا على بعضها وما زالوا أوفياء لها. خصوصاً أن صلات الصداقة والقرابة، لا بدّ أن تربطهم بأصحابها.
لكنّ هؤلاء الزبائن لا يمكن أن يبقوا أوفياء لتجّار المدينة «الأصليين»، الذين يفشلون حتى اليوم في تشكيل لجنة فعّالة. وصحيح أن بعضهم يجهدون للمحافظة على زبائنهم، إّلا أن نشوء محال ومؤسسات تجارية جديدة وبكثافة، أفقدهم بعض الزبائن «الأوفياء». مع ذلك يُصرّ بطرس وهو صاحب متجر قديم في المدينة على أن تجارّها الأصليين باتوا يعرفون من أين تؤكل الكتف وأن «الزبون سوف يعود يوماً ما لأننا ندرك تماماً ما هو طلبه، على عكس أصحاب المتاجر الجديدة الذين ما زالوا في طور اختبار السوق سواء لناحية النوعية أو الأسعار».
هذا الوضع لا ينسحب على تجّار السوق العتيق الذين، بحكم الواقع، أُجبروا على التكيّف مع ما يطلبه زوّار المدينة من لبنانيين وأجانب. فحوّلوا تجاراتهم إلى التذكارات والسلع الرخيصة الثمن. وهم، كما غيرهم من تجّار المدينة، يشكون من تردّي الوضع الاقتصادي، فيؤكد عدد منهم أن «فورة جبيل السياحية لم تنسحب على الوضع الاقتصادي فيها وأن الركود سيّد الموقف».
ومنهم مَن يعتبر أن نشوء متاجر كثيرة تفوق حاجة القضاء ككل هو السبب، ومنهم من يرى أن حال جبيل لن يكون أفضل من أحوال البلد الاقتصادية، بينما تقول ناديا العاملة في أحد المتاجر إنه يجب التوافق على فتح محالنا في الليل بدلاً من النهار، «لأن الحركة في الليل أقوى». أما ابن المدينة فراس، فيوضح أن السوق توسّع من دون دراسة ومن دون تنوّع التخصصات، وقد فقد روحه الاجتماعية حيث كان ملتقى أهل المدينة والقضاء، و «الأهم أن جبيل فقدت حرفييها من سكافين وخياطين وغيرهما من الحرف».
عاصمة السياحة العربية
يشرح رئيس بلدية جبيل زياد الحوّاط أن جبيل تشهد فورة اقتصادية كما الفورة السياحية. ويشير إلى أن التردّي التجاري لا بدّ وأن يتحسّن لاحقاً في ظلّ التغييرات التي تشهدها المدينة. ويؤكد أن المناطق الأخرى تبدو خالية من الزوّار في حين أن جبيل تعجّ بهم، «وهذا له أثر إيجابي على تجّارها. فبدلاً من أن يمرّ أمام متاجرهم مئة شخص يقف على واجهاتهم المئات. ولا بدّ من أن يزيد الأمر عدد زبائنهم».
يضيف: «ثمة مؤشرات عديدة تبرهن وجود فورة اقتصادية في جبيل، أوّلها زيادة قيمة الخلوّ من 50 ألف دولار إلى 350 ألف دولار. ثم حركة العمار التي تتمثل بالأبنية السكنية ومن بعدها المراكز التجارية. وهو يبشّر سكان القضاء بافتتاح سبع صالات للسينما عمّا قريب، لكون جبيل مازالت إلى حينه خالية من واحدة منها».
ويؤكد حوّاط أن الفورة السياحية التي شهدها العام الحالي سوف تتضاعف العام المقبل، لا سيما مع إعلان جبيل «عاصمة السياحة العربية للعام 2016». ومن المتوقّع أن تنظّم البلدية مؤتمراً لوزراء السياحة العرب بالإضافة إلى 200 مهرجان وفعالية، تطال القرى والبلدات المجاورة للمدينة.
ويلفت رئيس البلدية أن جبيل فقيرة بالموارد الماديّة لذلك تتكل البلدية على تقديمات بعض المتموّلين والمستثمرين، وقد وصلت إلى نتائج مرضية ففي المدينة نحو 400 غرفة فندق مشغولة جميعها بمغتربين لبنانيين بنسبة كبيرة، بينما يُشغل العرب ومن ضمنهم الأردنيون والسوريون نحو 5 في المئة منها». وهذا ما يؤكده مديرا فندقين، إذ أشار أحدهما إلى أنه من أصل 15 غرفة هناك فقط غرفتان يشغلهما إخوة عرب وغرفتان أخريان يشغلهما سياح أجانب، والباقية محجوزة للبنانيين مغتربين ومقيمين. إلى ذلك تشرف بلدية جبيل بالكامل على ثلاث مسابح شعبية وحديقة عامة. بينما افتتحت منذ مدّة منتجعاً رياضياً.
مروحة من الأماكن
في مطعمه المكسيكي الذي أسسه على كتف ميناء جبيل، يجلس إبن المدينة طوني صفير المتحمّس أبداً لازدهارها. بين صور فريدا ورسومها، يشرح أنه في السابق «كان زوّار المدينة يقصدون قلعتها السياحية اما اليوم فلديهم مروحة من الأماكن ليقصدونها بعد زيارة القلعة ومنها المطاعم والمسابح والمرابع الليلية وغيرها». ويؤكد أن ما يجذب السياح إلى جبيل ليس فقط تلك المشاريع بل انفتاح المدينة وأهلها ولاطائفيتهم التي تجعلها متنوّعة. ويلفت إلى أنه على عكس المعروف عنها أنها مدينة سياحية «فهي تنمو باقتصاد متوازن بوجود واحدة من أهم الجامعات في محيطها ومستشفى جامعي هو الوحيد خارج بيروت وضواحيها. كما باتت معروفة بسوق الصاغة الخاص بها الذي بدأ يجذب أسماء كبرى، وعدد المصارف فيها بالإضافة إلى السوق العقاري والبناء.
يشرح صفير أن بلدية جبيل أفقر من بلديات البلدات المجاورة، لكن ذلك لا يقف عائقاً أمام تنفيذ عدد من المشاريع منها تنظيم داتا المدينة من خلال نظام GIS، واستكمال عملية بناء المركز البلدي الذي هو بحدّ ذاته تحفة عمرانية صمّمها عميد كلية الهندسة المعمارية في جامعة MIT هاشم سركيس، وسيتضمّن متحفاً للأبجدية.
ومن المشاريع التي تسعى البلدية إلى تحقيقها تحويل المنطقة القديمة إلى منطقة مشاة وإنشاء جسر للمشاة بين السوق ومبنى البلدية، بالإضافة إلى مشروع نقل مشترك مع البلدات المحيطة كمرحلة أولى، والقرى الجردية كمرحلة ثانية.
في ظلّ الفورة السياحية لجبيل، تبدو قلعتها حزينة ومهملة مثلها مثل الآثار الأخرى. وعلى الرغم من النداءات المتكررة لإعادة تأهيل الموقع، مازالت الدولة مهملة في تأدية هذا الدور. ويلفت الحوّاط إلى أن وزير الثقافة أرسل إلى وزارة الأشغال طلباً لمزاولة الأعمال في الموقع الأثري إلا أنها حتى الساعة لم تباشر.