عبد الحميد العمري
يتأهب الاقتصاد الوطني تحت ضغوط التراجع الكبير لأسعار النفط وتباطؤ الاقتصاد العالمي، لمواجهة مرحلة مختلفة كثيرا عن الأعوام الأخيرة، التي إنْ طغى عليها ضعف نمو أغلب الاقتصادات حول العالم، إلا أن استقرار أسعار النفط فوق مستوى الـ 100 دولار، لعب دورا كبيرا في الدفع بالنمو الاقتصادي المحلي إلى مستويات جيدة، منح قوة للنمو الحقيقي لإجمالي الناتج المحلي غير النفطي، أبقته أعلى من معدل نمو فاق 5.0% طوال الأعوام الأخيرة.
ومع بدء تراجع أسعار النفط بصورة أكبر من منتصف 2014 حتى اليوم بنسبة وصلت إلى نحو 60%، زادت الضغوط على الاقتصاد الوطني، لتظهر مبكرا خلال العام الجاري نتائج كل ذلك على توقعات تراجع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد، التي قدرها صندوق النقد الدولي أخيرا أن تنخفض بنهاية العام الجاري إلى 2.8%، وأن ينخفض النمو الحقيقي للاقتصاد غير النفطي إلى 3.1%، وتوقعاته أن يرتفع عجز المالية الحكومية إلى ما يعادل 19.5% من إجمالي الناتج المحلي (نحو 471 مليار ريال). اختتم صندوق النقد الدولي تقديراته تلك، بإعادة توصياته السابقة طوال العقد الماضي، التي تمحورت حول ضرورة إجراء إصلاحات شاملة في أسعار الطاقة، وإحكام السيطرة على أجور القطاع الحكومي، ورفع كفاءة استثماراته، وتوسيع نطاق الإيرادات غير النفطية، عبر استحداث ضريبة على القيمة المضافة وعلى الأراضي، وملاءمة إصدار الحكومية سندات دين لتمويل عجز الميزانية الحكومية.
وبالطبع فإن للحكومة السعودية اتخاذ ما تراه من تلك التوصيات أو غيرها، وبالصيغ التي تتوافق مع كل من الفرص والتحديات الداخلية للاقتصاد الوطني، إلا أن المرحلة المقبلة تقتضي مزيدا من المبادرة وعدم التأخر في اتخاذ التدابير اللازمة للتكيف مع المتغيرات والظروف التي قد تكون غير مواتية، ولعله أمرٌ إيجابي القول إن الخيارات المتاحة اليوم في يد الأجهزة الاقتصادية والمالية أفضل بكثير من أي وقت في المستقبل، سواء من حيث توافر الاحتياطات المالية الضخمة، أو المساحة الواسعة للاقتراض محليا، الذي يحظى بارتفاع مستويات السيولة، خاصة أن نسبة الدين العام إلى الاقتصاد تعد هي الأدنى عالميا، أو من حيث القدرة على ابتكار الأدوات الضريبية محليا؛ ومن أهمها على الإطلاق عبر فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، المتوقع أن تدر على المالية العامة مع أول عام من تطبيقها ما لا يقل عن 250 مليار ريال “ما يعادل 53% من إجمالي عجز الميزانية الحكومية”، الذي سينتج عنه عديد من المزايا الاقتصادية والمالية، تتجاوز كثيرا مجرد تعزيز وتنويع مصادر الإيرادات الحكومية، فهي ستسهم في تحرير مساحات شاسعة من الأراضي المحتكرة، وبالتالي لانخفاض أسعارها المتضخمة جدا، التي ستنعكس على انخفاض كلفة المساكن والإيجارات وكلفة التشغيل والإنتاج، ستسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين بدرجة كبيرة، وتزيد في الوقت ذاته من الضغط على ملاك الثروات ورؤوس الأموال للتحول من مجرد تخزينها في أراض جرداء إلى الدخول بها في تأسيس مشاريع تجارية وصناعية، تساعد على إيجاد مئات الآلاف من فرص العمل للمواطنين، وفي الوقت عينه ستساعد على زيادة تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وهو الهدف الذي تأخر تحققه كثيرا طوال 45 عاما من عمر خطط التنمية.
إذا؛ كما أن الاقتصاد الوطني سيواجه تحديات جسيمة مستقبلا، فهو أيضا يمتلك فرصا وإمكانات هائلة بأرقام الفترة الراهنة، ولا يصح أن يفرط فيها وهي بالكامل متاحة أمامه، على أنه إن تأخر عنها اليوم، فقد تذهب أدراج الرياح ولا تعود إطلاقا. الأهم في سياق كل ما تقدم، أن تتحدد الحلول والأدوات اللازمة لها، وفق رؤية استراتيجية شاملة، تتفوق في ديناميكيتها على بطء الخطط التنموية، لتدفع بعمل الأجهزة الحكومية تحت مظلة إنجاز تكاملية، تخضع لمعايير أكثر فاعلية من حيث ربط الأداء بتحقق الأهداف، ومراقبته دوريا ومعالجة أي انحرافات قد تنشأ خلال أقل من عام، قبل أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة، أو لينتج عنها أي آثار سلبية نحن في غنى تام عنها. لا بد من القول، إنه مهما كانت الحلول المنفردة في غاية المتانة والموثوقية والفاعلية، فإن فرصة تحقيقها أهدافها ستظل أمرا مشكوكا فيه، طالما كان العمل عليها يتم في انفصال تام أو شبه تام بين مختلف الأجهزة الحكومية وفي القطاع الخاص، فلا بد من مظلة واسعة تنظم وتتحكم في تسيير مختلف أعمال وجهود الأجهزة، سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص. وإذا نظرت في الواقع المشاهد اليوم للاقتصاد الوطني، فليس هناك أكثر أهلية من القيام بوضع تلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وبمجرد الاتفاق على تلك الرؤية يبدأ العمل فورا، وبذل الجهد اللازم من قبل جميع الأطراف المعنية سباقا مع الزمن، وتجاوزا لأي تحديات قد تنشأ، واستغلالا لأي فرص متاحة قبل أن تنفد.
يؤمل أن تنظر تلك الرؤية الشاملة إلى الخيارات المتاحة في أيدينا اليوم بعين الاهتمام، وأن ترتبها وفق أولوياتها التنموية، فقرار تنفيذ الرسوم على الأراضي البيضاء، لا يُنظر إليه على أنه سيحل أزمة العقار والإسكان فحسب، بل إنه سيسهم كثيرا في الحد من تضخم كلفة المعيشة والإنتاج والتشغيل، يسبق في أهميته سعي الحكومة نحو تحرير أسعار الطاقة، بل إنه سيسهم في زيادة مرونة الاقتصاد والمجتمع على امتصاص أي آثار تالية لقرار تحرير الأسعار، كما أنه سيوفر خيارات أوسع في حال اضطر الأمر إلى رفع الأجور بالنسبة لذوي الدخل المتوسط فما دون. وهكذا يمكن المضي قدما في تنفيذ بقية الإصلاحات اللازمة للاقتصاد الوطني، وفق منهجية عمل واضحة وشاملة وفاعلة، بعيدا عن أي اجتهادات منفردة من الأطراف المعنية، لتأتي ضمن مسار عمل مشترك وتكاملي، عوضا عن أن تكون مسارات قد تتضارب مع بقية الجهود الأخرى، فلا نحصد في نهاية الأمر إلا هدرا في الجهود والأموال وعدم تحقق الأهداف النهائية.