كتب حازم الأمين في صحيفة “الحياة”:
كانت أغرب تظاهرة تشهدها بيروت منذ عقود طويلة، وكان من الصعب مقاومة المشاركة فيها، لا لغرابتها ولا لشعور المرء بأنه جزء من جماعة راغبة في إحداث تغيير أو تلبية مطلب، فما كان يلح علينا هو دافع داخلي مصدره ما لم نألفه في نفوسنا من مشاعر. كانت انفعالات صغيرة فعلاً. شاركنا على نحو ما. شاركت المرأة التي أمضت ليلة من دون أن تنام لأن التيار الكهربائي انقطع عن الأشرفية، لقناعة على هذا القدر من الضيق والتواضع. وعندما قالت السيدة نفسها أن التظاهرة “غير مسيسة” لم نشعر نحن المتخمين بـ”السياسة” بأن ما قالته أقل ذكاء مما نعتقده لجهة أن التظاهر لا يمكن أن يكون “غير سياسي”.
لم تكن تظاهرة تلك التي شاركنا فيها أول من أمس في بيروت. لم تستوف شروط التظاهر الذي ألفناه. أناس كثيرون قد يفوق عددهم عشرة آلاف لبناني نزلوا في ذلك المساء. لا يشتركون بشيء على نحو ما تفترض التظاهرة. فهذا التجمع لم يُذب الفروق ولم يحول الحشود إلى كتلة ووجدان جماعي. وكم بدت السيدة من الأشرفية محقة عندما قالت أن التظاهرة «غير مسيسة»، ذاك أن شعارات من نوع “حراميي حراميي” و”الشعب يريد إسقاط الأزعر” و”14 و8 عملوا البلد دكانة” لا تستقيم معها السياسة على ما ألفنا السياسة. وكان شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” مضحكاً ومأسوياً في آن!
الأصح أن تظاهرة بيروت كانت من دون “لغة سياسية”. ذروة السياسة تمثلت بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. ما هو النظام في لبنان؟ ومن هو النظام الذي أردنا إسقاطه؟ هو شيء غير محدد على الإطلاق، ومن المؤكد أن اثنان من المشاركين لم يكونا متفقين على هوية النظام الذي يريدان إسقاطه.
من المؤكد أن النظام ليس تمام سلام، فالرجل من هامشه، كما أنه ليس عناصر الأمن الذين وقعت المواجهات بيننا وبينهم، ذاك أن عدداً منهم شرعوا بالبكاء وهم يحملون هراواتهم. ومن جهة أخرى النظام كان يتظاهر معنا، فها هم العونيون المشاركون في النظام وفي الحكم وفي الحكومة يشاركوننا غضبنا عليه، ونبيه بري أيضاً، وهو ركن النظام و”عموده” كان معنا في التظاهرة. وعندما سألت أحد ناشطي حركة “أمل” عما يعنيه بالنظام الذي جاء لإسقاطه قال أن النظام هو فؤاد السنيورة.
تظاهرة الليلة التي سبقت شهدت أيضاً مواجهات. وفي الصباح كتبت في صفحتي على “فايسبوك” هذه العبارة: “عندما تعجز تظاهرة هدفها “إسقاط النظام” عن رفع صورة أحد الأركان الأساسيين لهذا النظام، فالعودة إلى المنازل تصبح واجبة. كان من الذكاء التواضع أكثر في رفع الشعارات. وكان من الواجب رفع مستوى الحساسية تجاه شرائح شعرت بالأمس أنها مستهدفة بهذا التظاهر. الدعوة إلى إرسال الجيش إلى عرسال معطوفاً على تفادي رفع صورة نصرالله أشعر أهل عرسال وما يمثلون من وجدان طائفي أنهم “خارج الثورة”… وهذا فشل أول وأخير لثوارنا”.
بعد الظهر وجدتني منساقاً إلى التظاهرة التي لم ترفع صورة نصرالله من بين صور السياسيين الذين رفعت صورهم. وهناك شعرت كم أن ذلك هامشياً وغير جوهري، على نحو ما كان كل شيء هامشياً في هذه التظاهرة. لا بل شعرت في لحظات أن استثناء نصرالله من مشهد الزعماء الذين رفعت صورهم هو استثناء له من لبنان. فالنظام الذي نريد إسقاطه هو لبنان نفسه، هو كل واحد فينا نحن المشاركين، ونصرالله ليس واحداً منا. ونحن لم نرفع صورته لأننا نخاف منه، ولا يعقل أن يخاف المرء على نفسه من نفسه.
لم يذب الأفراد خلال تظاهرة بيروت في “نفس جماعية”، ولم ينحدروا في ذكائهم على نحو ما ينحدر المتظاهرون. بقي كل واحد على ما يعتقده وما يؤمن به، وكان ثمة حذر يعيق التواصل، ومسافة بقيت غير واضحة بين المتظاهرين. “المندسون” أعاقوا سيولة التواصل، وهم لكثرتهم ووضوحهم أثاروا الريبة بين المتظاهرين. كانوا نسبة لا بأس بها، فقد أرسل نبيه بري “شعباً” صغيراً إلى شعب التظاهرة، وأرسل ميشال عون “شعباً” آخر. أكثر المتظاهرين كانوا من خارج هذين “الشعبين”، وكانوا يشيرون إلى “المندسين”، وكنا نعاينهم متسائلين عما ينوون فعله. وكان المندسون يُشهرون في وجوهنا حقيقة أنهم ليسوا جزءاً من جسم تفترضه التظاهرة.
كان واضحاً في التظاهرة أن ثمة احتقاناً ما، وأن المتظاهرين ليسوا على وئام. المحامي العوني الذي حمل مكبر صوت وراح يتلو على المشاركين بياناً بحقوقهم التي حرمهم منها “النظام” استدرج تصفيقاً طفيفاً أقرب إلى مكافأة على الجهد الكبير الذي بذله في رفع صوته، ولم يكن تصفيقاً على معنى ما قاله. والطبيب الذي جاء مع عائلته إلى التظاهرة نشر صورة العائلة في صفحته على “فايسبوك” وكتب “العائلة في التظاهرة”. التظاهرة كانت مشاهد غير مكتملة من حياة اللبنانيين. أفكار غير منجزة وتصرفات غير منسجمة. “التظاهرة غير مسيسة” و”النظام هو فؤاد السنيورة” و”العائلة في التظاهرة”. وكان من الصعب علينا مقاومة المشاركة، ذاك أن شيئاً يجب أن يُقال، وما أن يصل المرء إلى التظاهرة حتى يسأل نفسه: “ماذا علي أن أقول؟”. عليه أن لا يهزأ من شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. عليه أن يسمع هذه العبارة وأن يُقاوم ما تستدرجه من معان، وإلا سيعود أدراجه إلى المنزل. لكن وهل يعقل أن يقصر المرء مطالبه على حل مسألة النفايات؟
و”التظاهرة غير مسيسة” تردنا نحن اللبنانيين إلى حقيقة أنها من خارج الانقسام السياسي الأبدي بين “8 و14 آذار”، وهي فعلاً كانت كذلك، وقضية أن “فؤاد السنيورة هو النظام” تمثل حاجتنا نحن المتظاهرين إلى صورة رجل يُمثل ما نتظاهر ضده، ولبعضنا كان هذا الرجل هو السنيورة ولبعضنا كان نبيه بري، وبالنسبة لي النظام هو نصرالله وكنا خائفين من رفع صورته. أما الضلع الأخير من ثالوث التظاهرة المقدس فكان “العائلة في التظاهرة” وهي كانت فعلاً في التظاهرة، فأكثر من 60 في المئة من المشاركين جاؤوا كعائلات وجيران وأصدقاء، كما شارك هذه المرة عشرات من كبار السن الذين قد لا ينسجم التظاهر مع بنية أجسامهم المتعبة. فالسيدة التي أغضبها الفتية “المندسون” الذين راحوا يقذفون رجال الأمن بالحجارة، وراحت تصرخ أن ما يفعله هؤلاء هو تخريب للثورة، جاءت لوحدها، ومن تلقائها وقالت أنها وحدها لم تهاجر من بين كل أفراد عائلتها. وهي جاءت إلى التظاهرة بعد أن وصلت رائحة النفايات المنبعثة من مكب الحي إلى داخل منزلها، فتركت المنزل إلى بيت شقيقتها بانتظار حل لم تقدمه الحكومة حتى الآن. فهل من سبب أوضح من ذلك للمشاركة في تظاهرة يوم الأحد في بيروت؟ هل من سبب أقوى من أن رائحة النفايات صارت فعلاً داخل منزلك؟ أو من أن لا تستطيع النوم في حر ورطوبة شهر آب لأن الكهرباء تُسرق موازناتها منذ عقود وعقود.
إذاً فليستثنى نصرالله من بين الزعماء الذين ترفع صورهم، وليرفع متظاهر آخر شعاراً لا معنى له من نوع “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولتدر حرباً بين نبيه بري وميشال عون داخل التظاهرة، فكل هذا يجري على هامش ضيق مباشر ولا يُمكن تأجيله: “رائحة الزبالة”. هذه الرائحة لا سبيل لقبولها أو التعايش معها. والحكومة هذه فضيحة تفوق فضيحة إعفاء نصرالله من المسؤولية عن النظام ومحاولات عون مصادرتها وبري إفشالها.
ربما كان محقاً من قال أن ميشال عون عجز عن التظاهر على مدى أسبوعين دعا خلالهما لتظاهرات ولم يستجب أحد دعوته، فقرر أن “يركب موجة” التظاهرة وأن يُحول مسارها، فما كان من خصمه نبيه بري إلا أن أعاق مسعاه وأفشل التحرك.
… ولكن كان علينا أن نشارك.