ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
بعد إطلاق الرصاص على المتظاهرين، حان وقت الجدار. آخر ابتكارات السلطة اللبنانية جدار عال يفصل بينها وبين الناس. وهذا دليل عافية وسبب كاف لأن تستمر الحشود بالتوافد إلى وسط العاصمة، الذي رفعت فيه، منذ ما بعد «الطائف»، حواجز نفسية تميز اللبنانيين حسب طبقاتهم الاجتماعية.
دليل عافية لأنه يؤكد أن السلطة خائفة، أو على الأقل قلقة من تضاؤل قدرتها على الاستقطاب الطائفي. ودليل عافية لأنه يعرّي عنصرية السلطة تجاه الناس، بعدما اقتنعت، أو تكاد، بأن نظرية القطيع الطائفي بحاجة إلى تصويب، خاصة أن من ينزل إلى الشارع ينزل أولاً في وجه زعيمه.
أقطاب النظام يثبتون مع كل حراك أن لديهم من الدهاء ما لا يقدر. لذلك فإن الدرس الأول الذي تعلمه المعتصمون هو عدم الاستخفاف بذكاء السلطة وعدم الانتشاء بقرب رحيلها. المعركة طويلة والنظام لم يعتد الاستسلام للناس. لذلك، كان يطور أسلوب رده على التظاهرات تباعاً. البداية كانت مع الاستخفاف بالأعداد التي نزلت، «فلينفسوا عن غضبهم قليلاً قبل العودة إلى منازلهم». لكن ما حصل كان العكس تماماً. في اليوم التالي، انضم من كان في منزله إلى المتظاهرين، حتى صارت الأعداد تقاس بالآلاف. عندها انتقلت السلطة إلى مرحلة تشويه صورة التحرك من خلال بث الدعاية عن دعم يتلقاه المتظاهرون من هذا الحزب أو ذاك، وعندما فشل هؤلاء انتقلوا إلى القمع. لكن القمع الاستثنائي، لم يشكل سوى وقود للتحرك الذي تحول إلى حالة جماهيرية لم يشهدها لبنان منذ تحركات «هيئة التنسيق النقابية».
عندها بدا أن التطويق هو أفضل الحلول. مؤتمر صحافي للرئيس تمام سلام أوحى أنه واحد من المتظاهرين. تلاه تقريب لموعد فض مناقصة النفايات، عبر الإيحاء أن هذه الخطوة أتت تحت ضغط الشارع. لم تنطل الحيلة، فثبّت المتظاهرون أقدامهم في الساحات. حكي أن العدد صار بين العشرة والعشرين ألفاً، نادوا جميعهم باستقالة الحكومة. هنا استعملت السلطة كل أسلحتها دفعة واحدة: خرق المتظاهرين بمخلين بالأمن، تحريك الحساسيات الطائفية، تسييس التحرك وزيادة مستوى القمع. اتهام ميشال عون بأنه وراء التحرك، بالرغم من أن المتظاهرين لا يميزون بينه وبين نبيه بري أو تمام سلام أو سعد الحريري أو وليد جنبلاط. اتهام التحرك بأنه يريد إسقاط رئاسة الحكومة، فنزل بعض «المدافعين عن الموقع السني الأول» إلى الشارع قاطعين الطريق في أكثر من منطقة. ولم يبق سوى تكرار القمع، مع ازدياد عدد المتحمسين من المتظاهرين، قبل أن تخرج الأمور من عقالها فتتحول إلى حالات شغب وكر وفر استمرت حتى ما بعد منتصف الليل، كاد معها الإحباط يدخل إلى قلوب الناس.
المفاجأة الكبرى كانت بعودة المتظاهرين إلى الساحة أمس. ومن ظن أن «المندسين» ستكون الكلمة السحرية التي تبعد الناس عن حقوقهم، أيقن أنهم واعون إلى أن «الزعماء هم المندسون على جماعاتهم». دافعهم صار أقوى من كل ذكاء السلطة، ونجاحهم زاد أملهم بإمكانية التغيير. لكن هذا زاد المسؤولية عليهم. صار الحراك بحاجة لقيادة وأهداف واضحة، بسقوف تصاعدية، تحتاج إلى التمييز بين الموقف والتوجه. الموقف لم يتغير: السلطة فاسدة وقاتلة ولا بد من تغييرها، لكن التوجه يتطلب الضرب بدقة، مستفيداً من كل أخطاء تحركات «إسقاط النظام الطائفي» و «هيئة التنسيق النقابية». أول الغيث قد يكون مناقصة النفايات. تلك فضيحة تحمل في طياتها كل آفات النظام السياسي. محاصصة وقحة تحول «سوكلين» إلى 5 «سوكلين»، وبأسعار تزيد عن أسعارها، وبدل سيطرة فئة واحدة على المزابل صار لكل فئة مزبلتها الخاصة. لذلك، حسناً فعلت «طلعت ريحتكم» في اعتبار المناقصة باطلة والتصويب على البلديات، التي هي أولاً وأخيراً أدوات تنفيذية للسلطة وأحزابها. فمن يسكت منها يكن متواطئاً على أموال الناس، حيث تدفع الحكومة للشركات من أموال البلديات وبدون موافقتها، ومن يرفض فعليه أن يكون جزءاً من الحراك دفاعاً عن حقه وأمواله.
صحيح أن موعد تظاهرة «طلعت ريحتكم» هو السبت، لكن كرة الثلج انطلقت وهي لن تتوقف. السبت ليس سوى محطة، لكن المسير سيستمر كل الأيام، بسبب إصرار الناس على كسر حاجز الصمت. جلسة مجلس الوزراء اليوم مفصلية. إذا مرت المناقصة، فسيكون ذلك بمثابة تثبيت للفضيحة وإصرار على تحدي الناس الذين نزلوا إلى الشارع رفضاً للفساد لا لتثبيته.