سكان ألمانيا الذين يشيخون بسرعة يجعلون من الصعب العثور على ما يكفي من اليد العاملة، ما يهدد مكانتها بوصفها أكبر اقتصاد في أوروبا.
عندما واجهت قرية أوتينشتاين الهادئة شمالي ألمانيا مسألة إغلاق مدارسها بسبب عدم وجود أطفال، استخدم عمدتها، مانفريد فاينر، طريقة جديدة لجذب الأسر الشابة إليها.
بدلا من تأجير أراضي القرية للمزارعين، لجأ إلى إعطائها مجانا لمن هم على استعداد للانتقال للعيش في نلك القرية الصغيرة الخلابة. سيتم منح المتقدمين الناجحين عقد بناء بشرط واحد: أن يكون لديهم أطفال صغار ويفضل أن يعتزموا إنجاب المزيد منهم.
استجاب نحو 30 زوجا. القادمون الجدد بحد ذاتهم لن يجددوا السكان كبار السن في أوتنشتاين البالغ عددهم 900 شخص. لكن يمكن أن يكون عددهم كافيا لإنقاذ المدرسة، التي تعهدت السلطات بإبقائها مفتوحة طالما لم ينخفض عدد التلاميذ إلى أدنى من المستوى الحالي البالغ 50 تلميذا. يقول فاينر البالغ من العمر 71 عاما: “ينبغي علينا الحفاظ على المدرسة. كيف يمكن للقرية أن تكون بلا مدرسة؟ بلا مخبز؟ بلا جزار؟”.
عبر ألمانيا، يسأل رؤساء البلديات الآخرون أنفسهم الأسئلة نفسها. على الرغم من موجة المهاجرين – حيث تتوقع ألمانيا استقبال 800 ألف من طالبي اللجوء هذا العام – إلا أن من المتوقع أن ينخفض عدد السكان عن الذروة التي وصلوا إليها في عام 2002، البالغة 82 مليون نسمة، إلى 74.5 مليون بحلول عام 2050، وفقا للأمم المتحدة. ويتوقع أن تنخفض النسبة المئوية ممن هم تحت سن 15 عاما إلى 13 في المائة، وهي من بين أدنى النسب المئوية في العالم. أما حصة أولئك الذين هم فوق سن 60 فمن المتوقع أن ترتفع من 27 في المائة إلى 39 في المائة.
سوف تغير الهجرة المزيج العرقي، لكن من المرجح أن يتبع المهاجرون الذين يستقرون في ألمانيا النمط المحدد من قبل الألمان الأصليين، الذين يربون عددا قليلا من الأطفال ليحلوا محل الأجيال السابقة. فولفجانج شويبله، وزير المالية، قال هذا العام: “يعد التغير الديموغرافي واحدا من التحديات الكبيرة التي تواجهنا”.
في حين تواجه كثير من بلدان الاتحاد الأوروبي ضغوطا مماثلة، إلا أن ضغوط ألمانيا حادة بشكل خاص. في ظل وجود اقتصاد قوي ومعدلات بطالة منخفضة، فإن عدد سكانها ممن هم في سن العمل آخذ في الانخفاض، ما يفرض ضغوطا ضخمة على أرباب العمل. وهناك أيضا عواقب جيوسياسية محتملة: مع نمو عدد السكان في فرنسا وبريطانيا ربما لا تبقى ألمانيا البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان في الاتحاد الأوروبي – أو حتى أكبر اقتصاد فيه بعد عام 2050، مع آثار مترتبة على ميزان القوى في أوروبا.
لكن بوصفها دولة غنية ذات عدد سكان بدرجة تعليم مرتفعة، لدى ألمانيا الفرصة لتصبح دولة مبتدعة في كيفية إدارة السكان المعمرين. يقول راينر كلينجهولتز، مدير معهد السكان والتنمية: “إن التغير الديموغرافي لا يلزم أن يكون بمنزلة كارثة. السؤال هو كيفية الرد. الحكومات جميعا معتادة على إدارة النمو. يجب عليها الآن تعلم كيفية إدارة الانكماش. نحن بحاجة إلى إعادة النظر بصورة كاملة في مجتمعاتنا”.
المشكلة هي أن المجتمعات المعمرة ليست بالضرورة جيدة في إعادة التفكير. وفي حين يعرب كثير من الناس الأكبر سنا عن قلقهم إزاء المجتمع الأرحب، عندما يتعلق الأمر بالسياسات، يغلب عليهم أن يهتموا كثيرا بأنفسهم ومعاشاتهم التقاعدية. وتعمل الحكومات على إرضاء مطالبهم: كانت أكبر توزيعات الإنفاق للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، على تخفيض الحد الأدنى لسن التقاعد إلى 63 عاما لعمال الخدمة الطويلة ورفع المعاشات التقاعدية للأمهات غير العاملات. يقول كلينجهولتز: “هذا النوع من السلوك قد يزداد سوءا”.
ينبع التحدي الديموغرافي الألماني من انخفاض معدل المواليد. بعد عام 1945، تمسكت حكومات ألمانيا الغربية بالرأي القائل إنه ينبغي على النساء الاهتمام بالأطفال وتوفير الرعاية لهم في البيت، وقدمت رعاية أطفال مدعومة من الدولة وغيرها من أشكال الدعم للأمهات العاملات أقل مما كانت تقدمه فرنسا أو المملكة المتحدة. وبمواجهتهن الاختيار بين العمل أو الأطفال، اختارت كثير من النساء الألمانيات وظائفهن.
ومنذ إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، حاولت السلطات اللحاق بالركب، ولا سيما عن طريق التوسع في رياض الأطفال، لكنها تكافح في مواجهة شعبية نمط الحياة الخالي من الأطفال. معدل الخصوبة يبلغ 1.4 طفل لكل امرأة، بمقارنة بـ 2 (معدل الاستبدال) في فرنسا، و1.8 في المملكة المتحدة، ومتوسط يبلغ 1.6 في الاتحاد الأوروبي. ويقول دويتشه بانك في تقرير له: “على الرغم من الاستثمارات الضخمة في سياسة الأسر، لم ترتفع معدلات الخصوبة قط بأي مقياس كبير”.
ومع ولادة عدد أقل من الأطفال، تصبح ألمانيا دولة معمرة بشكل سريع. وبمتوسط أعمار 46 سنة، تأتي ألمانيا فقط في المركز الثاني بعد اليابان. ومنذ الآن، هناك واحد من كل 20 ألمانيا فوق سن 80 وبحلول عام 2050، ستكون النسبة واحد إلى ستة، وفقا لبيانات الأمم المتحدة.
وتتفاقم التحديات بسبب التحولات الداخلية. فبعد مضي عقود من فرار الجمهور البريطاني والفرنسي من القرى الصغيرة إلى المناطق الحضرية، يجري اجتذاب الشباب الألماني من خلال الإثارة الموجودة في المدن الكبرى. تراجعت هذه العملية طويلا بسبب الهيكل اللامركزي الألماني، الذي شجع الناس على البقاء في مناطقهم، وبسبب انتشار الشركات الصغيرة المملوكة للأسر التي تقدم تلمذة عالية الجودة، حتى في أماكن غير عصرية.
لكن بوجود السفر الأرخص تكلفة، أصبح الشباب الألماني قلقا وأصبح يفضل الدراسة الجامعية على تدريب المصانع. لذلك، في حين تراجع عدد السكان الإجمالي قليلا منذ عام 2000، إلا أن المجموع الكلي في المدن الكبرى – برلين وميونيخ وهامبورج وكولونيا وفرانكفورت – ارتفع بنسبة 10 في المائة تقريبا.
وما يضاعف هذه التحركات هو التحول باتجاه الغرب من قبل مليوني شخص من الألمان الشرقيين بعد سقوط جدار برلين في عام 1989 سعيا وراء فرص العمل. ولو بقيت ألمانيا الشرقية بلدا مستقلا أو منفصلا، لكان لديها أكبر عدد من السكان الأكبر سنا في العالم، مع متوسط عمر يصل لأكثر من 47 عاما.
لكن ألمانيا الديمقراطية – سابقا – ليست وحدها، كما يشير أوتنشتاين. انخفض عدد سكان المنطقة المحيطة تقريبا بنسبة 15 في المائة خلال السنوات الـ 20 الماضية، ومن المتوقع أن ينخفض بنسبة 15 في المائة أخرى خلال السنوات العشر المقبلة. ولا يوجد نقص في فرص العمل، لكن الشباب يفضل العيش في مدن قريبة، مثل هانوفر. وينفي فاينر، عمدة أوتينشتاين، أن تكون حملة توظيف الأسر خاصته على حساب غيرها من القرى. لكن مسؤولا في الحكومة الاتحادية يقول: “بالطبع، هناك منافسة متزايدة بين المجتمعات المحلية على السكان. يجب على المحليات التنافس، ليس فقط على الوظائف ولكن على جاذبية بلداتهم أو قراهم”.
أوقفت موجة الهجرة – نتيجة الأزمات في الشرق الأوسط وإفريقيا – التراجع في عدد السكان الوطني، مع وجود صافي تدفقات من المهاجرين تصل إلى أكثر من 400 ألف شخص سنويا خلال العامين الماضيين، مرتفعة عن المتوسط السنوي في الفترة الأخيرة، البالغ 100 ألف مهاجر. ويكاد يكون مؤكدا أن صافي الهجرة إلى ألمانيا سيرتفع هذا العام.
لكن برلين تفترض أن هذه الموجة أمر مؤقت. ووفقا لحساباتها، حتى إذا ارتفع متوسط صافي التدفق طويل الأجل إلى 200 ألف سنويا، سيبقى عدد السكان في تراجع. ومثل هذه الزيادة المستمرة تعتبر أمرا غير مرجح لأن توقعات الأمم المتحدة تبين أن دول أوروبا الشرقية، التي كانت منذ فترة طويلة أكبر خزانات الهجرة إلى ألمانيا، هي نفسها تواجه انخفاضات في أعداد سكانها. في الوقت نفسه، يخشى كثير من الألمان من أن وصول المزيد من المهاجرين، مثل طالبي اللجوء من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ربما يجعل من الصعب عليهم الاندماج مع المجتمع.
وبالنسبة لأرباب العمل، التحدي الأكثر إلحاحا هو النقص المتزايد في الأيدي العاملة الماهرة. مع معدل بطالة عند مستوى 6 في المائة فقط، يكون لديها سوق عمل ضعيف نوعا ما – وفي الوقت الذي يتقاعد فيه جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية، سوف يتعقد الوضع أكثر من قبل. تشير حسابات معهد بروجنوس للأبحاث إلى أن الشركات ستعاني نقصا في العمال المهرة في حدود 1.8 مليون شخص بحلول عام 2020، و3.9 مليون شخص بحلول عام 2040.
ويملأ المهاجرون، الذين في الأغلب يتم توظيفهم مباشرة من الخارج، بعض الثغرات. يقول ماركوس كيربر، المدير الإداري لـ “بي دي آي”، اتحاد أرباب العمل: “هناك أعداد من الناس أكثر من أي وقت مضى يتعلمون اللغة الألمانية في جميع أنحاء العالم، بسبب عوامل الجذب المتمثلة في العيش والعمل في ألمانيا”. لكن الهجرة ليست كافية لإنهاء مشكلة نقص العمال المهرة التي تتمثل في نحو 350 ألف شخص سنويا – تقريبا تعادل صافي التدفق لجميع المهاجرين.
هذا يجعل من المهم أكثر من قبل أن يواصل من هم في سن العمل أعمالهم. بعد أعوام من التخلف عن بريطانيا وفرنسا، استطاعت ألمانيا اللحاق تقريبا من حيث مشاركة الإناث في القوة العاملة، إذ إن 54 في المائة من النساء في سن العمل يعملن، مقارنة بـ 43 في المائة في عام 1990. وبالنسبة للعاملين الذين تراوح أعمارهم بين 60 و64، النتيجة كانت حتى عجيبة أكثر من ذلك، مع ارتفاع نسبة التوظيف منذ عام 2008 من 28 في المائة إلى 50 في المائة. تقول شركة سيمنز للإلكترونيات إن هذا كان يتم إلى حد كبير من خلال تقديم تدريب إضافي، وساعات عمل مرنة، وفرص للعمل من المنزل.
ويأمل أصحاب العمل أن يعمل الارتفاع الثابت في سن التقاعد من 65 إلى 67 على إطالة الحياة العملية، خاصة مع انتشار الوظائف البسيطة – وظائف ذات عقود مرنة – التي تناسب العاملين الأكبر سنا. لكن هناك عقبة: قانون “التقاعد في سن 63” الخاص بميركل.
قال دويتشه بانك في تقرير صدر أخيرا: “إن أي انحراف عن الزيادة التدريجية لسن التقاعد القانوني إلى 67 بحلول عام 2030 (…) سيأتي بنتائج عكسية”. ودون تغييرات جذرية، يتوقع كيربر أن تبحث الشركات عن العاملين خارج ألمانيا. قبل 20 عاما، كان التركيز على أوروبا الشرقية، تليها الصين وغيرها من البلدان الناشئة. اليوم، الشركات تبحث مرة أخرى في الولايات المتحدة – ولا سيما بسبب القوة العاملة المتنامية فيها.
إذا كان عدد أقل من الألمان يعملون، سيكون من الصعب الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي حتى بالمعدل الحالي طويل الأجل البالغ 1.2 في المائة. وتكاليف التقاعد والرعاية الصحية من المتوقع أن تنمو بسرعة أكبر، ما يزيد العبء على العدد المتقلص من السكان العاملين. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن ترتفع التكلفة الإجمالية للمسنين في ألمانيا من 19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2013 إلى 23.8 في المائة عام 2060، على افتراض أن النمو الاقتصادي يبلغ 1 في المائة. كذلك تكاليف ألمانيا من المتوقع أن ترتفع أكثر من متوسط الاتحاد الأوروبي بسبب الشيخوخة السريعة والمعاشات التقاعدية السخية. ردا على ذلك، تعمل الحكومة على زيادة سن التقاعد الرسمي وتشجيع الأفراد على الادخار. كذلك خفضت برلين العجز في المالية العامة إلى صفر حتى مع أن معظم حكومات منطقة اليورو غارقة في الديون. والهدف هو تخفيض الاقتراض العام من نسبة تقارب 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 70 في المائة. ويقول أحد المسؤولين في وزارة المالية: “مع كون السكان يصبحون أكبر سنا، يصبح من المهم أكثر أن نتجنب الديون الجديدة”. لكنها قد تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد، خاصة عندما يتعلق الأمر بتشجيع التقاعد المتأخر. ويقول دويتشه بانك: “لا يزال على ألمانيا إجراء تغييرات كبيرة إذا كان لا بد من حماية الزخم الاقتصادي والثروة أو حتى زيادتها خلال العقود المقبلة”.
مع ذلك، القليل من كبار السن يحبون التغيير، وكبار السن لديهم رأي غير متناسب فيما يتعلق بالسياسة الألمانية.
في الانتخابات البرلمانية لعام 2013، 36 في المائة من الناخبين كانت أعمارهم 60 عاما أو أكثر، وذلك أعلى بكثير من نسبتهم البالغة 27 في المائة من عدد السكان. يقول كلينجهولتز: “إن الاعتماد على تصويت الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاما يصبح أكبر. المشكلة ليست أنهم لا يهتمون بالأجيال الأصغر سنا. لكن المشكلة هي أن السياسيين يتوددون إليهم من خلال الوعود”.
مع ذلك، يشير آخرون إلى أن الناخبين الكبار في السن ليس من السهل جدا استمالتهم بالتصريحات. مانفريد جولنر، من وكالة فورسا لاستطلاعات الرأي، يقول إن الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 60 و70 عاما اليوم ساعدوا في إطلاق الحركة الخضراء القوية في ألمانيا ودعموا ثورة الطاقة النظيفة. “ليس بالضرورة أن الأشخاص الكبار في السن هم أقل تقدمية”.
رئيس بلدية أوتينشتاين يتفق معه: “في البداية الأشخاص الكبار في السن في القرية، لم يرغبوا في التنازل عن أرضنا. لكنهم أرادوا أن يكون للقرية مستقبل، حتى ولو بعد أن يتوفاهم الله. لذلك دعموا المخطط”.