IMLebanon

شكرًا جنرال! (الوزير السابق يوسف سلامة)

michel-aoun

 

كتب الوزير السابق يوسف سلامة في صحيفة “النهار”:

فرح المسيحيّون بشعارات الجنرال عون، وبخاصّة النخب والساعين إلى المساهمة بفعالية في الحياة السياسية والشأن الوطني العام، والمكتَوين بنار الإقطاع الذي اقتطعهم قطعاناً واحتكر تمثيلهم، وتاجر بآمالهم وآلامهم ردحاً طويلاً من الزمن وأورث أجياله على حساب فرص الجميع ومكانتهم وقدراتهم.

فرح المسيحيون – ونحن منهم – بالجنرال وتيّاره، وهو الآتي من خارج السرب، ومن الصفِّ الآخر، جاء من الجيش وقيادته، ومن عامّة الشعب أيضًا، داعياً إلى الإصلاح والتغيير، وإلى إلغاء امتيازات العائلات الاقطاعية التي احتكرت تمثيل المسيحيّين، وتمكّنت من تضليلهم واستغلالهم طيلة عقود فأورثتهم الإفقار والهجرة والمقابر لشبابهم، طمعًا بحصصٍ في السلطة، وبأموالٍ من خزائنها، ومن عرق الشعب، وطمعًا باستخدام النفوذ لاستعباد اللبنانيّين بكذبة تمثيلهم.

باختصار، راح الجنرال بشعاراته وخطاباته وممارساته على مدى ربع قرن يقنع الناس بأنّه وحده “المختلِف” ووحده “المخلِّص” ووحده حامل لواء “الإصلاح والتغيير” فتبعته فئة واسعة من اللبنانيّين التوّاقين بشدّة إلى كلّ “مختلف” والى أيّ “مخلِّص” وإلى نذرٍ ولو يسير من “الإصلاح والتغيير” في بنية نظامنا السياسي وأدائه ورجالاته.

فرح الناس وأملوا في أنَّ عهداً واعداً بدأته الساحة المسيحية في مسيرة تجديد نُخبها والتمكّن من اختيار ممثّليها بحرِّيّة وديموقراطية، مع جيلٍ جديد من القيادات صعد في ظلّ العداء للقديم المتهالك. وإذا بالتطوّرات والممارسات تكشف أنَّ المحسوب جديداً ليس في حقيقته سوى قديم متجدّد، بل مرمَّم، وهو أسوأ من القديم، لأنّه مقنّع، وجلّ همومه واهتماماته الخفيّة وجوهر مشروعه المضمر، هو أن يقيم القديم عن كرسيّه ليجلس مكانه، ليس إلاّ. إنّه يسعى بكلّ قوته إلى موقع القديم، وإلى تقليد القديم، والسير على نهج القديم وخطئه.

وهكذا تحوّلت مع الجنرال عون شعارات الحرية والديموقراطية والتمثيل الصحيح بما في ذلك الديموقراطية الحزبية، إلى فرضٍ وتعيين ومنعِ نُخَب التيّار من أن تعبِّر عن نفسها، وأن تحتلَّ مرتبة تستطيع من خلالها، وعبر صناديق الاقتراع الحزبيّة، الترويج لرؤيتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية واحتلال مكانتها والمساهمة في تجديد دم القيادات وتطوير العمل الحزبي والأداء السياسي العام في البلاد.

فثمّة وقائع مؤلمة وتناقضات مخزية كشفها مآل الانتخابات المجهَضة لرئاسة التيار الوطني الحر، أهمّها:

إنَّ زعيم “التيار الوطني الحرّ” الذي يصرّ منذ مدة على أن تنتخب القاعدة الشعبية رئيس الجمهورية اللبنانية بالاقتراع المباشر دون المرور بمجلس النواب، يحرم القاعدة الحزبية في تيّاره الفرصة الوحيدة التي أُتيحت لها منذ خمس وعشرين سنة لانتخاب رئيس لهذا الحزب من طريق الإقتراع المباشر، وفق منافسة شريفة مبنيّة على برامج عمل ورؤى مستقبلية.

كشفت انتخابات التيار الوطني الحرّ وممارسات الجنرال الّذي لم يتحمّل تنوّع الخيارات حتى ضمن العائلة الواحدة (الصهر، ابن الأخت، ابن الأخ)، حقيقة ما سعى اليه وما انتهى إليه مشروعه السياسي من محاولةٍ لفرض زعامة فردية، وعائلية، تتوارث زعامة التيار، مقدّمة لفرض نفسها على المجتمع المسيحي، بقوّة التعنّت، وبالاستنجاد بالحلفاء، وبكلِّ الوسائل غير المشروعة، وغير المقبولة. فحتى ورقة التين “الشكليّة” هذه، أبى الجنرال عون أن يحفظها لحزبه، فعرّاه من كلّ صفة ديموقراطية في الشكل والمضمون، وفرض صهره عنوةً.

إنّ التجربة الحزبية في التيار بعد 25 سنة من العمل السياسي لم ترتقِ الى مستوى تجاوز الأداء التوريثي التقليدي لمعظم الأحزاب السائدة في لبنان، ما أحبط تطلّعات محازبي التيار إلى التغيير وأفقد طروحاته في هذا الصدد كامل صدقيّتها. ويكفي العودة إلى بيان العزوف عن الترشّح الذي أصدره النائب ألان عون الذي يعترف فيه صراحةً بأن مسار الأمور منذ انطلاق الحملة الإنتخابية في التيار أظهرت “عدم نضوج الظروف الملائمة لحماية الانتخابات الديموقراطية … ما ينذر بانقسام يشكّل خطراً على وحدة التيار في المرحلة التي ستلي الإنتخابات”. وهكذا يجد المسيحيون باعتراف قيادات الصف الأول في التيار الوطني الحرّ أنَّ الحزب الذي بناه الجنرال عون كتشكيل سياسي تمثيلي للمسيحيّين بديل من بقيّة الأحزاب التقليدية السائدة منذ الإستقلال، هو حزب مهدّد بالانقسام في حال خضوعه لأوّل تجربة انتخابية ديموقراطية ويتساءلون بحقّ وقلق : إذا كان انقسام الحزب هو نتيجة شبه محتومة لانتخابات تجري في الوقت الذي لا يزال مؤسّسه على قيد الحياة، فماذا سيحصل بعد رحيله؟ وبماذا يختلف هذا الحزب عن أحزاب مسيحية أخرى انفرط عقدها فور غياب مؤسِّسيها؟

حضرة الجنرال،

يبدو أنّ مطالبتك بانتخاب رئيس للجمهوريّة من الشعب كانت تعني سحب كلّ المرشحين وتتويجك ملكًا على اللبنانيِّين باسم المسيحيِّين، فأسقطت شعارات وعناوين التجديد والاصلاح والتغيير، وإذا بثلج الوعود والشعارات الكبيرة يذوب ويظهر مكانه مرجُ المصالح الشخصانية والعائلية، وتسقط معه مشروعيّة نضالك السياسي منذ تولّيك قيادة الجيش حتى اليوم. فهنيئًا للتيار ما انتهى اليه زعيمه، وما على المسيحيين إلاّ البحث في البدائل، فهذا التيار وأخواته من القوى السياسية الزاعمة تمثيل المسيحيين ليست سوى مولود قيصري سباعي على شاكلة مواليد تلك الأسر والقيادات الاقطاعية التي استخفّت بعقول المسيحيّين وحجّمت طموحاتهم.

وهكذا ، يا جنرال، تحوّلت معك دماء المسيحيِّين وعذاباتهم وهجرتهم، والتي قدّموها في الدفاع عن خياراتك، إلى مجرّد أرقام حسابات في المصارف، ومكاسب للأسرة واحتكارها لكلِّ شيء وكأنّها خُلقت لتبقى وتتأبّد في سدّة القيادة والسلطة.

لا أيّها الجنرال القائد، يكفي أن تتذكّر:

– إنَّ المسيحيّين الّذين ولدوا من رحم أمّهاتهم أحرارًا والذين بذلوا الدماء والتضحيات دفاعًا عن حريتهم وكرامتهم لن يرضوا باعتبارهم مجرّد أرقام في حسابات الزعامات وبازارات مصالحهم.

– إنَّ لدى المسيحيّين القوة والقدرة والوعي على تجديد قياداتهم والخروج على الإقطاع العائلي السياسي المستجِدّ، وتشكيل حراكهم الحرّ الديموقراطي التغييري والاصلاحي جدِّيًّا. فكلّ إصلاحٍ يبدأ من الذات ومن العائلة والجماعة والحزب قبل أن ينتقل إلى الناس برنامجاً يغيِّر في أحوالهم ويُصلح في سلطاتهم.

وختاماً، سيتذكّر المسيحيّون أيضاً أنَّ الجنرال عون الذي لم يكفّ يوماً، هو وتيّاره، عن انتقاد التوريث السياسي، قد انتهى به الأمر الى تعيين وليّ للعهد ووليَّين اثنين لوليّ العهد بدلاً من واحد… شكراً جنرال.