موريس متى
عيش الاسواق المالية العالمية منذ 11 آب، حالاً من التخبّط وعدم الاستقرار، من تاريخ بدء السلطات النقدية الصينية خفض قيمة العملة المحلية “اليوان” بهدف دعم اقتصادها عبر اعطاء صادراتها ميزة تفضيليّة في الاسواق العالمية. تكررت عملية الخفض ثلاث مرات متتالية، ما رفع المخاوف بين المستثمرين من نشوب حرب عملات على المستوى العالمي، اضافة الى المخاوف حيال صلابة الاقتصاد الصيني، وما قد يكون لاهتزازه من تبعات خطرة على الاقتصاد العالمي، وأدى الى انهيارات كبيرة في الاسواق العالمية نهاية الاسبوع الماضي، وكان أكبرها الاثنين الفائت.
ما سجلته الاسواق العالمية من خسائر خلال التعاملات ووصلت في أوروبا الى 450 مليار دولار، وصف بـ”الاثنين الاسود”، وقد خسرت الاسواق الآسيوية والاميركية معظم المكاسب التي حققتها منذ مطلع السنة الجارية، نتيجة المخاوف حيال ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الاقتصاد الصيني، وتراجع اسعار النفط الى أدنى مستوياتها منذ أكثر من 6 سنوات ونصف السنة. وبحسب التقديرات خسرت الاسواق العالمية يوم الاثنين الماضي ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار من قيمتها السوقية.
قرار بيجينغ خفض سعر اليوان اعتُبر نتيجة مخاوف السلطات الصينية من تردي الاوضاع الاقتصادية في البلاد أكثر فأكثر، بعد سلسلة بيانات مخيبة للآمال كان آخرها انكماش الصاردات 8%، والتي تُعتبر العمود الفقري للاقتصاد. وتمددت هذه المخاوف الى سوق النفط ، لكون الصين تعتبر ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم، اذ تستهلك ما يقارب 6 ملايين برميل في اليوم، ما دفع بأسعار الذهب الاسود التي تتعرض اصلاً لضغوط قبل اشهر، من وفرة المعروض في السوق، الى أدنى مستوياتها منذ اعوام.
أين لبنان من الأزمة؟
ما بين تراجع أسعار النفط وتردّد الاحتياطي الفيديرالي الأميركي في رفع اسعار الفائدة، وازدياد المخاوف من تعاظم الأزمة الصينية، يبقى السؤال عن التداعيات المُحتملة لهذه الأزمة على الاقتصاد اللبناني.
للأزمة الصينية وما حملته من تداعيات على الاسواق العالمية تردّدات على لبنان بشكل مباشر وغير مباشر، وقد تتمّ عبر قناتين: الأولى اقتصادية وتتمثل بالتبادل التجاري بين لبنان والصين. وهنا يُمكن الجزم أن خفض قيمة اليوان سيحفّز زيادة الاستيراد من الصين لكون قيمة الواردات الصينية ستنخفض بالنسبة الى المستوردين اللبنانيين الذين يتعاملون بالدولار الاميركي مع الصين، ومن المتوقع تالياً ان يُسجل ارتفاع طفيف للعجز في الميزان التجاري بين البلدين. علماً ان حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع من 413 مليوناً في العام 2001 الى 2,3 مليار دولار في 2013. وبحسب الارقام، تبلغ الصادرات اللبنانية الى الصين 60 مليون دولار، اما الواردات فتشكل 2.5 مليار دولار.
ويمكن ان يستفيد لبنان من تراجع سعر صرف الدولار الاميركي نتيجة المخاوف في الاسواق العالمية لكون اقتصاده مدولراً، ما يعزّز احتياطاته وميزانه التجاري، ويقوّي الليرة اللبنانية.
تراجع أسعار النفط
وبما يتعلّق بتداعيات تراجع سعر برميل النفط الذي عمق من خسائره في الأيام الماضية نتيجة الازمة الصينية، فستكون بالطبع ايجابية بالنسبة الى وضع المالية العامة اللبنانية حيال خفض الفاتورة الحرارية المقدرة بنحو 6 مليارات دولار، بأكثر من مليار دولار خلال 2015. ولا شك في ان خفض قيمة هذه الفاتورة ينعكس ايجابا على الميزان التجاري وميزان المدفوعات، اذ يُحسّن من وضعية الأخير ويخفّف من العجز المزمن في الميزان التجاري، ما يُلقي آثاراً ايجابية على حجم الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى الدولة والمصارف. وبالطبع، يبدو ان التراجعات الدراماتيكيّة لأسعار النفط كفيلة بخفض الخسائر التي تسجّلها “مؤسّسة كهرباء لبنان” سنوياً والبالغة نحو ملياري دولار، وتشكّل 15% من اجمالي النفقات العامة من الموازنة العامة ونحو 35% من عجزها. ويُتوقع ان ينعكس ايضاً تراجع اسعار النفط عالمياً على القطاع الصناعي في لبنان في الاشهر المقبلة، بما يتعلق بتكاليف الصناعات التي تعتمد على الطاقة، ما يساهم في خفض اسعار المبيع ويحفّز الاستثمار في هذا القطاع. يذكر في هذا المجال، أن تكاليف الطاقة في لبنان تشكل 5٫7 % من سعر بيع 4000 مؤسسة. هذه الاحصاءات لــ “اليونيدو” مع جمعية الصناعيين ووزارة الصناعة، وفي بعض القطاعات تصل هذه النسبة الى 30 %.
ومن الانعكاسات الايجابية على لبنان، وتحديداً على المواطنين، نتيجة التراجعات الكبيرة التي سجلتها اسعار النفط والتي تضاعفت نتيجة المخاوف حيال الوضع الاقتصادي في الصين، استمرار تراجع اسعار المحروقات في الاسابيع المقبلة في حال لم تعمد الحكومة على وضع سقف أدنى للأسعار بحجة توفير ايرادات اضافية لخزينة الدولة. فأسعار المحروقات (بنزين ومازوت) التي تراجعت بنحو 3000 ليرة منذ 8 تموز الماضي، يُتوقع ان تستمر في الانخفاض في الاسابيع المقبلة ليصل سعر صفيحة البنزين الى دون 23 الف ليرة، والمازوت الى دون 13 الف ليرة استناداً الى الاسعار الحالية للنفط.
المستثمرون اللبنانيون
تأثرت السوق اللبنانية بالاهتزازات القوية التي شهدتها الاسواق المالية، وشهد مؤشر “بلوم” تراجعات بضغط واضح من بعض اسهم المصارف والقطاع العقاري. ولكن التراجعات التي شهدتها السوق تُبرّر أكثر بالمخاوف حيال الاوضاع الداخلية، السياسية والامنية.
واللافت في هذا السياق، بروز حالة الهلع التي عمّت أوساط المستثمرين اللبنانيين عبر شركات الوساطة والمصارف اللبنانية في الاسواق العالمية بالاسهم والعملات وتحديداً بالدولار الاميركي الذي شهد تراجعات قياسية أمام سلّة عملات رئيسية، بعد تسجيل الاسواق العالمية انهيارات كبيرة في مطلع الاسبوع. وتكبّد العديد من المستثمرين اللبنانيين، اسوة بأي مستثمر في الاسواق المالية العالمية، خسائر فادحة في جلسة مطلع الاسبوع، وقامت الشركات التي يتعاملون معها بالاتصال بهم لدعوتهم الى اعادة تكوين وتمويل الهوامش التي تآكلت مع خفض الاسهم وتراجع العملات، واعادة مراجعة مراكزهم. ولا شك في ان المستثمرين في أسواق الصرف هم من أكبر الخاسرين، وخصوصاً بعدما تلقوا ضربات قوية من جراء تراجع الدولار مقابل العملات التي تعتبر ملاذات آمنة، مثل الين الياباني والفرنك السويسري.
سيعبر لبنان الذي استطاع تخطّي أزمة العام 2008 والتي أسقطت العديد من الاقتصادات في أزمات لم تخرج منها بعد، هذه الأزمة بلا ضرر يُذكر. لكن الخطر على الاقتصاد اللبناني يبقى من الداخل وليس من الخارج. فبين تعطيل الحكومة والعجز المالي وغياب الاستثمارات والفساد والأزمات السياسية والاجتماعية الناتجة منه، يتجه الاقتصاد اللبناني نحو الهاوية وخصوصاً على صعيد العجز المالي الذي أصبح فعلاً الخطر الأول على الكيان اللبناني.