انخفض النمو في الصين من 8% في العام 2013 إلى 7% حاليا. لا شك أن هذا الهبوط الطفيف غير خطير بالمقاييس الغربية. حيث تستهدف الدول الصناعية الكبرى معدلات تقل عن نصف المعدل الصيني. لكن الصين دولة ناشئة وتحتاج إلى معدلات نمو عالية خاصة في ميدان التشغيل.
أضف إلى ذلك مشكلة أخرى ترتبط بمصداقية إحصاءات الأجهزة الرسمية الصينية. إذ يرى البعض أن النمو لا يتجاوز 6% بل وحتى 2%. والنمو المنخفض ناجم كما هو معلوم عن تباطؤ الطلب على السلع والخدمات.
لذلك اتجهت السياسة الاقتصادية إلى تحسين مستوى الأجور. فارتفعت الدخول ولم يتحسن الاستهلاك بل هبطت القدرة التنافسية للمنتجات الصينية على أساس أن الأجور المتدنية -وهي جزء هام من كلفة الإنتاج- كانت تشكل الركيزة الأساسية للمقدرة التنافسية لهذه المنتجات.
وتزامن هبوط النمو مع ارتفاع الديون المترتبة على الشركات الخاصة والأفراد إضافة إلى الديون الحكومية الداخلية والخارجية، حيث يبلغ حجم الديون الإجمالية الصينية 28 ترليون دولار أي 282% من الناتج المحلي الإجمالي.
إن هذه الديون هائلة إلى درجة أن الاحتياطي الرسمي الصيني برمته (وهو الأكبر في العالم) لن يستطيع تغطية أكثر من 14% من حجمها. ولا تقتصر خطورتها على مبلغها بل تشمل أيضاً سرعة تفاقمها من الناحية الزمنية. إن هذه دلالة واضحة على استخدامات غير منتجة للأموال.
فشل السياسة الاقتصادية
قدمت الحكومة الصينية قروضاً للشركات والبنوك لمواجهة مشاكلها المالية وتفادي الوقوع بأزمة مالية عنيفة. واستخدم القسط الأكبر من هذه القروض لتمويل مشاريع عقارية وتحسين البنية التحتية وتطوير بعض الخدمات.
ونجحت هذه السياسة في تشغيل عدد من العمال وفشلت فشلاً ذريعا في تحقيق هدف زيادة الاستهلاك، فقد تم بناء عقارات لا تزال غير مستغلة ولا يمكن بيعها.
والجدير بالذكر أن انفجار فقاعة القطاع العقاري الأميركي عام 2007 أفضى إلى اندلاع أزمة اقتصادية خانقة لا تزال آثارها عميقة لحد الآن رغم أن هذا القطاع يسهم بأقل من 4% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي. أما أزمة القطاع العقاري الصيني فهي أشد وطأة لأنه يمثل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما تم تعبيد آلاف الكيلومترات من الطرق السريعة دون جدوى اقتصادية وحاجة فعلية. وشيدت فنادق ومراكز تجارية خالية من الرواد. وهنالك أمثلة أخرى عديدة لأنشطة عديمة الجدوى.
وتعلم الحكومة علم اليقين بأن الصينيين لديهم مدخرات يمكنها -في حالة إنفاقها- زيادة النمو. لذلك قررت تخفيض أسعار الفائدة كما فعل الأوروبيون والأميركيون واليابانيون. لكن هذا الإجراء لم يحقق النتائج المرجوة منه نتيجة شعور متأصل لدى الشعب الصيني بمستقبل اقتصادي مظلم وقريب.
لذلك لجأت السلطات العامة إلى أسلوب آخر لإخراج تلك المدخرات وهو الاستثمار في البورصة. وقد استخدمت وسائل الإعلام المحلية لإقناع نحو مئتي مليون صيني بشراء الأسهم عن طريق مغريات الربح السريع. واستدان البعض لاقتنائها.
ولكن هبطت قيمها مؤخراً ولم يتحرك الاقتصاد بل خسر الملايين من المكتتبين قسطاً من دخولهم ناهيك عن ارتفاع المديونية الفردية التي باتت تفوق المديونية الخارجية.
تخفيض نقدي محدود
ترتبط العملة الصينية الرمينبي المعروفة تحت أسم اليوان بسعر ثابت بالدولار مع تذبذب هامشه 2%. لكن الدولار شهد في الآونة الأخيرة ارتفاعا كبيرا مقابل العملات الأخرى يتجاوز هذا الهامش. قاد هذا الأمر إلى ارتفاع سعر صرف اليوان مقابل العملات الرئيسة وساهم بالتالي في تقليص الصادرات.
وخلال الفترة بين ديسمبر/كانون الأول 2010 ومايو/أيار 2015 انتقل سعر صرف الدولار من 6.66 إلى 6.20 يوانات وسعر صرف اليورو من 8.80 إلى 7.10 يوانات وسعر صرف الين من 0.079 إلى 0.051 يوان. أي ارتفعت القيمة التعادلية للعملة الصينية بنسبة 6.95% أمام الدولار و19,3% أمام اليورو و35.4% مقابل الين. بمعنى أن الهامش المذكور لم يعد كافياً لإعادة توازن أسعار الصرف وأصبح التخفيض ضرورة لا بد منها.
لكن التخفيض يقود إلى هروب رؤوس الأموال إلى الخارج. ولا يشجع على تقليص أسعار الفائدة. كما يعمل الخبراء الصينيون من أجل عالمية اليوان. والعملة لا تكتسب الثقة على الصعيد العالمي إلا إذا كانت مستقرة.
وعلى هذا الأساس بات من اللازم تخفيض سعر صرف اليوان للعودة إلى سعر الصرف السابق بحيث يقود السعر الجديد إلى تحسين الصادرات. وبالتالي نستبعد التخفيضات التي تؤثر سلبياً على الاستثمارات الداخلية وعلى السمعة النقدية.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات فإن تضخيم آثار التخفيضات البالغة 5% والذي نلاحظه في وسائل الإعلام الغربية وفي بعض المقالات لا يستند إلى أسس منطقية.
لكن التخفيضات الحالية محدودة الفاعلية على التجارة الخارجية خاصة الصادرات لأن سعر صرف الدولار حاليا يساوي 6.41 يوانات. أي أن سعر صرف العملة الصينية لا يزال مرتفعاً مقارنة بسعر صرفها في 2010. لذلك قد تلجأ السلطات الصينية إلى تخفيضات جديدة لغاية تحقيق الهدف المنشود وهو تحسين الصادرات. عندئذ قد ترتفع معدلات التضخم ويتراجع بالتالي مستوى المعيشة.
تدهور أسعار النفط
تستورد الصين 7.4 ملايين برميل من النفط يوميا وبالتالي فهي أكبر مستورد للخام في العالم تليها الولايات المتحدة.
في الوقت الحاضر تحتل السعودية المركز الأول بصادراتها النفطية للصين البالغة 993 ألف ب/ي. تليها أنغولا (906 آلاف ب/ي) وروسيا (891 ألف ب/ي) ثم عُمان (638 ألف ب/ي) والعراق (624 ألف ب/ي) فإيران (518 ألف ب/ي) والباقي من دول أخرى.
وتحت وطأة عوامل عديدة في مقدمتها الأزمة الصينية هبطت أسعار الخام لتصل إلى 46.9 دولارا للبرميل. وقد لا تتحسن كثيراً في القريب العاجل لأسباب لا ترتبط بالأزمة الصينية وتراجع الطلب الأميركي فحسب بل كذلك لعوامل تخص الوضع الاقتصادي والحالة الأمنية والعمليات العسكرية في المنطقة العربية.
لكن تأثير الأزمة الصينية لا يتوقف عند هبوط الأسعار بل يمتد ليشمل مستقبل تسوية المبادلات. لن تستطيع الدول العربية الحفاظ على مركزها النفطي في الصين إلا إذا وافقت على البيع باليوان بدلاً من الدولار.
وشراء النفط بالعملة الصينية فكرة مطروحة منذ عدة سنوات. لكنها باتت ضرورة ملحة نتيجة التراجع الأخير للصادرات الصينية وما يترتب عليه من انخفاض الموارد المالية وهبوط الاحتياطي الرسمي الذي انتقل من 3970 مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2014 إلى 3840 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول 2014.
وافقت روسيا على بيع نفطها باليوان واستطاعت زيادة استثماراتها في الصين فتحققت مصالح الطرفين. وروسيا ليست الدولة الوحيدة التي ارتضت هذه التسوية. فقد سبقتها إيران التي وافقت قبل ثلاث سنوات على البيع باليوان لشراء مواد ومعدات صينية.
في حين لم تستطع السعودية تحسين مركزها الاستثماري. كما أنها وإن كانت تحتل المرتبة الأولى في الإمدادات النفطية للصين إلا أن مبيعاتها شهدت انخفاضاً لا يستهان به. فقد بلغت صادراتها النفطية الحالية 993 ألف ب/ي بعد أن كانت 1.28 مليون ب/ي في أبريل/نيسان المنصرم. فقدت السعودية إذاً 22% من صادراتها للصين أي ما يعادل خسارة يومية قدرها 13 مليون دولار حسب الأسعار السائدة في الوقت الحاضر.
وستؤدى الأزمة الصينية إلى ميلاد البترويوان، الأمر الذي سيقود إلى انخفاض الطلب على الدولار فيهبط سعر صرفه. عندئذ ستفتح الأبواب أمام عقود نفطية بعملات أخرى فتتزعزع سيطرة الدولار على المبادلات العالمية.
إن موافقة دول عربية على قبول اليوان بدلاً من الدولار (وهذا لم يحدث لحد الآن) تعني تحسن المبادلات الخارجية العربية الصينية من جهة والمس بالسمعة النقدية العالمية للدولار الأميركي من جهة أخرى. والحكمة تقتضي وضع المصالح الوطنية فوق أي اعتبار.